تطوُّر إيجابي كبير شهدته الاقتصاديات الكبرى بأرقام النمو، سواء بمعدلات التوظيف، وبداية تراجع مستوى البطالة بدول منطقة اليورو. فيما سجلت أمريكا رقماً جيداً عند 7.4 في المئة للبطالة بوتيرة تراجع مستمرة فيها، كدليل على تحسن اقتصادي ملحوظ بدعم من خطط التيسير الكمي. ولم تكن بقية الأرقام الدالة على نمو الاقتصاديات الكبرى بأقل إيجابية كثقة المستهلك ومؤشرات نمو الطلب على السلع والأرقام الخاصة بالتحسن التجاري والصناعي والتراجع بعجز الميزان التجاري في أمريكا والصين والعديد من دول أوروبا كألمانيا وبريطانيا.
لكن يبقى هذا التحسن عموماً مبنياً على تدخل حكومي مباشر وغير مباشر، بدأ منذ خمس سنوات تقريباً، وما زال مستمراً بأطوار مختلفة، لكنه يبقى محكوماً بآليات بعيدة عن طبيعة الأسواق الحرة والنمو الذاتي البعيد عن تدفق المال الرسمي وآثاره. ومن هنا لا بد من إبقاء الحذر قائماً؛ فالضخ الهائل للنقد بأسواق تلك الدول له ثمن كبير، فقد رفع من معدلات الدين العام بتسارع هائل، فاليابان تخطى دينها حاجز عشرة آلاف مليار دولار، أي أكثر من ضعفي ناتجها المحلي، فيما أمريكا فاق دينها ناتجها القومي بقليل، ولا تبتعد غالبية دول أوروبا عن هذه النسب الكبرى من الدين، التي أصبح من المؤكد أن اتجاهها للتقشف خلال الفترة الماضية للوصول بالدين العام لحاجز 60 % من ناتجها القومي قد توقف كهدف؛ لأنه أدى إلى تفاقم الانكماش الاقتصادي؛ ما غير من أسلوب التعامل مع مشكلة شلل الاقتصاد بدولها؛ ليصبح الإنفاق القائم على الاقتراض هو الاتجاه السائد، ونشط سوق السندات الأوروبي بشكل كبير، وخصوصاً لدول مثل إيطاليا وإسبانيا وعموم الدول المتضررة، وفقدت الكثير من هذه الدول تصنيفها الائتماني الممتاز الذي كانت تحظى به من قِبل وكالات التصنيف العالمية، وما زالت النظرة سلبية، وتظهر احتمالات تراجع مستمر بالتصنيف مستقبلاً.
وإذا ما وصلت هذه الاقتصاديات الضخمة لمرحلة لا تستطيع معها أن تستمر في الاقتراض الرسمي لتغذية الاقتصاد بالسيولة فإن هذا النمو والتحسن بالمؤشرات الاقتصادية سيتوقف، وعندها لن يكون هناك أي مجال لطرح حلول والقيام بتدخلات حكومية كبيرة لإعادة النشاط الاقتصادي إلى وتيرة قوية، وقد تعود بعض تلك الدول للمربع الأول من الأزمة المالية التي بدأت قبل خمس سنوات، فما الذي سيحفز النمو وينعش الاقتصاد من جديد إذا كان اللاعب الأكبر قد تعطل، والمقصود به الحكومات، وهل ستضطر الدول للقيام بسياسات مالية ونقدية عكسية لما قامت به، أي العودة للتقشف ورفع أسعار الفائدة ورفع الضرائب، وخصوصاً لو أخذنا بعين الاعتبار أن مدناً أمريكية أعلنت إفلاسها، كان آخرها وأهمها ديترويت معقل صناعة السيارات.
إن الاقتصاد العالمي لم يصل حقيقة إلى مستوى الأمان المطلوب؛ فتراجع معدل النمو الاقتصادي بالصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي إلى مستويات 7 % إشارة واضحة لمستوى السلبية العالمية كون الصين تعتمد بنسبة 70 % على التصدير، وهذا يعني أن النشاط التجاري الدولي قد تضرر كثيراً، بل إن الإنفاق الحكومي وخطط التحفيز هي التي أصبحت تشكل النسبة الكبرى من نمو اقتصاد الصين، ولا يمكن اعتبار التنافسية الدولية إلى الآن السبب في تراجع حصص الصين بالتجارة الدولية، فما زالت بضائعها هي الأرخص سعراً، وتحتفظ كذلك بالمرتبة الأولى عالمياً في التصدير، فيما لعبت حرب العملات دوراً مهماً في رفع نسب التصدير لليابان، إلا أن كل هذه الأدوات التي استخدمت بالاقتصاد الدولي لم يكن اعتبارها صالحاً لكل وقت وزمان، وقد يطول أثرها لعام أو عامين على أبعد تقدير؛ ليتضح معها الآثار التي حققتها ومدى كونها علاجاً شافياً لعلل الاقتصاد دولياً، وبذلك فإن الاحتمالات أصبحت مفتوحة لكل السيناريوهات الممكنة السلبية والإيجابية؛ ما يستوجب الترقب والحذر وعدم الإفراط في التفاؤل والتعامل القصير الأمد مع تحسن المؤشرات الاقتصادية، فاحتمالية انتكاسها واردة، وما لم تبدأ الدول الكبرى بقياس جهد حقيقي وبمعايير قاسية لمدى تأثير تراجع ضخها المالي وتدخلها بمختلف السياسات والأدوات التي اتبعتها خلال السنوات الماضية على اقتصادياتها ومعرفة قدرة أسواقها وقطاعات الأعمال لديها للاستمرار بمسارها الإيجابي، وأن أسواق العمل لديها عادة لتوليد الوظائف بشكل صحي وذاتي، والإنفاق الاستهلاكي أصبح مبنياً على ثقة حقيقية من الفرد بديمومة النمو الاقتصادي والأمان الوظيفي، فإن كل ما حدث من تحسن اقتصادي سيبقى مجرد مسكنات لعوارض المرض الذي أصاب الاقتصاد العالمي، وليس علاجاً حقيقياً له.
ولذلك فإن الاقتصاديات التي تتمتع بصحة وذات ملاءة وقدرات جيدة كدول الخليج لا بد أن تستعد لمرحلة الحقيقة بعد فترة قد لا تكون طويلة، وتتجه نحو وضع خططها لمواجهة أي احتمال لأزمات اقتصادية مجدداً بالدول الكبرى؛ لأننا نعتمد على تصدير النفط ومشتقاته الصناعية في البتروكيماويات تحديداً، وذلك بمختلف الأدوات المالية والنقدية، ليس فقط لتدارك الآثار السلبية بل لاغتنام فرص استثمارية قد تكون أكبر مما تحقق في السنوات الماضية، وللتخلص أيضا من استثمارات قد تكون سلبية، وخصوصاً بالسندات والأوراق المالية المرتبط أداؤها الحالي بإنفاق حكومي دولي، قد يتبدل للأسوأ، مع التركيز على الإنفاق المحلي بدولها بمشاريع نوعية كالطاقة الشمسية والمتجددة، ونقل وتوطين التقنية بمختلف القطاعات الإنتاجية التي نحتاج إليها.