في مثل هذه الأيام المباركة من العام الماضي رحل عنا الصديق العزيز الأخ إبراهيم بن عبدالله الهبدان - رحمه الله - الذي كان مثالاً في وفائه وحيائه وإيثاره وتضحيته، وتكالبت عليه الأمراض في سنواته الأخيرة؛ فكان لا يخرج من المشفى إلا وعاد إليه. له أولاد بررة، لما رأوا ضعف الأطباء وعجزهم أمام حالته الصحية صاروا ينقلونه من مشفى إلى آخر محاولة في بقائه وأملاً في شفائه، وكأنهم في محاولاتهم هذه يدخلون تحت معنى الآية الكريمة: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْه فَإِنَّه مُلَاقِيكُمْ (سورة الجمعة 8).
ورحم الله أبو الطيب القائل:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب
وفارقها الماضي فراق سليب
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
تجمع بيني وبينه أشياء كثيرة، منها: تجاور بلدتينا؛ فهو بلده (الخيس) وأنا بلدي (الغاط)، و(الغاط) يقع في وادٍ واسعٍ غني بالروافد، يبلغ طوله نحو عشرين كيلاً، وهو متعلق بظهر (جبل طويق)، يتساوق معه من الجهة الشرقية الشمالية وادي (مرخ)، ويذهبان جنوباً حتى يلتقيا في عناق مع وادي (الخيس). ووادي (مرخ) هو الذي خلده الشاعر جرول بن أوس بن مالك العبسي المعروف بـ(الحطيئة)، وكنيته (أبو مليكة) - رحمه الله - بقصيدته العمرية:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الخليفة الذي من بعد صاحبه
ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثرك إذ قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الخير
يتحلى فقدينا - رحمه الله - بخلال كريمة، يأتي في مقدمتها (الوفاء، والحياء). والوفاء كما هو معلوم صفة من صفات الخالق تبارك وتعالى، كما قال عنه نفسه: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللّهِ (سورة التوبة 111)؛ فإنه إن وعد لا يخلف الميعاد. وأكمل ما يكون عليه العبد اتصافه بصفات الحق، والتخلق بأخلاقه.
والوفاء صفة محمودة، وخلق شريف، ضده الغدر والخيانة والجفاء.. وهو ترك الوفاء ونقض العهد، وتقول العرب: «إن الوفاء إيفاء كل ذي حقٍ حقه.. براً كان أو فاجراً»، فلا يستعمل فيه غرض النفس والطبع والهوى أياً ما كان متأسياً في ذلك بخالقه - جل ثناؤه - الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى (سورة طـه 50).
فهو الذي أعطى كل شيء غاية كماله، ولم ينقصه شيئاً، والعبد الوفي من عرف الحقوق وأهلها فأوفاها، ومن لم يوفها كان من الخائنين.
والصدق ينبوع الوفاء، والوفي لا يكون وفياً إلا إذا كان صادقاً في أقواله وأفعاله وأحواله، قالت العرب: «الوفاء توأم الصدق». وللوفاء معانٍ ومفاهيم متعددة، نذكر منها ما يأتي: العمل بالعهد والميثاق (العهد التكويني) حين طيب الله تعالى الذرية من ظهور بني آدم، وأشهدهم على أنفسهم بالعبودية لله، ولله بالربوبية عليهم، فأقروا له بذلك بلسان فطرتهم، وامتثلوا لأمره تكويناً، وأصبحوا عباده ذاتاً، قال جل ثناؤه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين (سورة الأعراف 172). والعبد مطالَب بأن يعامل ربه بالوفاء على العهد الخالص، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
وفي الوفاء بالعهد مع المخلوقين قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (سورة المؤمنون 8). قال أهل العلم: «ثلاث لم يجعل الله لأحدٍ فيهن رخصة: أداء الأمانة للبر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين بارَّين كانا أو فاجرَين»؛ فهو من الواجبات التي فرضها الله تعالى، ومن الثلاثة التي لم يجعل الله فيهن رخصة، ولاسيما مع الأصحاب والإخوان في الله؛ فإن الأخوّة عقد يجب الوفاء به، قال تعالى: إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (سورة الإسراء 34)، فلولا وجوبه لم يكن مسؤولاً عنه ومعاتباً على نكثه يوم القيامة، وهو من الحقوق التي لا يقوم بها إلا من أيده الله بتوفيقه وعنايته.
أما الحياء فهو كما هو معروف لفظٌ جامع لكل محمدة، مانع من كل مساءة، ما بان منها وما خفي.. يدفع صاحبه إلى الخير ويعصمه من الشر، ألا ترى قارئي الكريم أن صاحب الحياء يهم أن يأتي من الأمر ما ينكر لكنه ما يكاد يهم به حتى تنازعه نفسه بين إقبال وإدبار، حتى يغلبه حياؤه، ويعود إلى عقله، ويثوب إلى رشده؛ فالحياء خير كله، قال صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» كما جاء في صحيح البخاري.
وقال الجاحظ حكيم العرب - رحمه الله: «الحياء لباس سابغ، وحجاب واقٍ، وستر من العيب، وهو أخو العفاف وحليف الدين، ورقيب من العصمة، وعين ثالثة تذود عن الفحشاء، وتنهى عن ارتكاب الأرجاس، وسبيل إلى كل فاضل وجميل».
قال أبو تمام الشاعر العربي الكبير - رحمه الله:
إذا جاريت في خلق دنيئاً
فأنت ومن تجاريه سواءُ
رأيتُ الحُر يجتنبُ المخازي
ويحميه عن الغدر الوفاءُ
وما من شدة إلا سيأتي
لها من بعد شدتها رخاءُ
لقد جربتُ هذا الدهر حتى
أفادتني التجاربُ والعناءُ
إذا ما رأسُ أهل البيتِ ولَّى
بدا لهمُ من الناس الجفاءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيى بخير
ويبقى العودُ ما بقي اللحاءُ
فلا والله ما في العيش خيرٌ
ولا الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ
إذا لم تخش عاقبة الليالي
ولم تستحي فافعلْ ما تشاءُ
ويحسن بنا ما دام أننا جئنا على ذكر القرية والقرى أن نأتي على ذكر شيء من مكارم أهلها.
كان يوجد في قريتي (الغاط) وجوه كريمة، مضى بها الزمن، وما أحسسنا بوجودها إلا بعد أن غيبها الثرى، وجوه كنا نرى في ملامحها الطهر، وفي سمتها وسماتها الحنان السمح، الوالد فيهم والد لكل ولد، والصديق منهم صديق لأهل وود ذلك الصديق من أصوله وفروعه، تراحماً وتعاطفاً، جعل من جدب حياتهم خصباً، ومع قلة ما في أيديهم كثرة ووفرة، ومن فقرهم غنى، حياتهم كلها مباركة، يتبادلون خيرها، ويشتركون في برها.. نعم، إنها بركة، كانوا يعيشون على سرها، وينعمون فارهين في ظلال وفرها، إنه التعايش الكريم. لقد غابت تلك الوجوه فغاب خير كثير وأدب وفير؛ لقد كانوا يوظفون كل جوارحهم في تأدية تلك الرسالة أحسن أداء متأثرين بما علموا ومؤثرين فيمن علموا بسلوكهم وأخلاقهم الكريمة، فهم بين متأثرٍ ومؤثر.
لقد كان فيهم ومنهم الكرام الكبار، كانوا يحسون بأنهم القدوة، فلا يفخرون ولا يباهون، ولكن يفخر بهم ويباهى بهم، إنه معقل حصين، وقلعة متينة، يهجع الناس من ورائهم، وهم الصاحون الساهرون، كانت بيوتهم مفتوحة ليل نهار، تقري الضيف، وتلجأ العاني، وتؤدي الحقوق والواجبات، يكفي أنها بيوت نذكرها ولا ننساها، ففي منطقة (العقدة) بيت أبو الأمراء، الأمير أحمد بن محمد السديري - رحمه الله - وفي (العوشزة) بيت الأمير عبدالله بن ناصر السديري - رحمه الله - والأميرة منيرة بنت محمد السديري - رحمها الله - وهي شقيقة أحمد بن محمد السديري أبو الأمراء ووالدة أبو ناصر عبدالله بن ناصر السديري - رحمهما الله - الذي (قصره برزان)، وكان الذين يشرفون على خدمته يتناوبون عليه ليل نهار لاستقبال الضيوف وخدمة مرتاديه، لا يقفل بابه.
وهناك بيوت كثيرة لكرام القوم، قد تختلف عنها كثيراً أو قليلاً، لكنها من حيث المعنى والمضمون تتفق ولا تختلف، فعسى أن يأتي من يُعنى بتسجيل هذه اللطائف من الأمجاد وتراث الآباء والأجداد، وما ذلك على الله بعزيز.
مع الذكريات:
في إحدى زيارات الصديق الراحل - رحمه الله - وزياراته لا تنقطع، وكان يظهر على ملامح وجهه أنه مهموم، هاتفني أحد الأحباب يسألني عن قائل هذا البيت:
غوى الذئبُ فاستأنست بالذئب إذا عوى
وصوَّتَ إنسانٌ فكِدتُ أطير
وقلتُ للسائل إنه مطلع قصيدة للشاعر الأحيمر السعدي - رحمه الله- ويأتي بعد هذا البيت:
يَرى الله إني للأنيسِ لكَارهٌ
وتُبغضُهم لي مُقلة وضميرُ
والقصيدة طويلة؛ تبلغ ثمانية وعشرين بيتاً، جاء فيها:
وإني لأستحيي مِن الله أن أُرى
أجرّرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ
وأن أسألَ المرءَ اللئيم بعيرَهُ
وبَعرانُ ربي في البلادِ كثيرُ
فلما انتهت المهاتفة رأيت ملامحه تغيرت إلى الأحسن؛ فسألته قائلاً: ما الخبر؟ ملامحك تغيرت عن ذي قبل!! فأجبني قائلاً: إنني جئتك شاكياً من عقوق الآخرين فلما سمعت قول الشاعر زال عني ما كنت أعانيه، فقلت له: إذاً، هاك فائدة أخرى:
وزهدني في كل خير صنعته إلى
الناس ما لاقيت من قلة الشكر
وفي زيارة أخرى صار يحدثني كعادته عن ذكريات الطفولة، وذكرياته مع الهجرة الأولى من القرية، إلى أن انتهى به المطاف في إمارة الكويت للبحث عن لقمة العيش سعياً على الأقدام في متاهات صحارى الجزيرة العربية الواسعة، وفي أثناء حديثه عن هذه الرحلة وما لاقى فيها من المرارة والعنى مع رفاق السفر، وهو يذكر لي المعالم والأعلام التي مر بها في رحلته، جاء على ذكر (قرقر).
وقلت له عندي لك هدية لا تحلم بها: لقد مر قبلك في رحلة مماثلة قبل قرون الشاعر يحيى بن طالب الحنفي - رحمه الله- وهو علم من أعلام ذلك الزمن، فاسمع ماذا قال. وأسمعته الأبيات الآتية من القصيدة؛ لأن فيها ما يعبّر عن قسوة الحياة وشظف العيش الذي يمر به صديقنا حينذاك - رحمه الله:
أيا أثلاتِ القاع من بطن تُوضحِ
حنين إلى أفيائكُنَّ طويلُ
ويا أثلاتِ القاعِ قلبي مُوكلٌ
بكنّ وجدوى خيرِكُنَّ قليـلُ
ويا أثلاتِ القاع قد ملّ صحبتي
مسيري فهل في ظـلكن مقيلُ
ويا أثلاتِ القاعِ ظاهرُ ما بدا
بجسمي على ما في الفؤاد دليلُ
ألا هل إلى شمِّ الخُزامى ونظرةٍ
إلى قرقرى قبل الممات سبيلُ
فأشرب من ماء الحُجيلاء شربةً
يُداوى بها قبــل المماتِ عليـلُ
أُحدِّثُ عنكِ النفس أن لستُ راجعاً
إليكِ فحُزني في الفؤاد دخيلُ
أريدُ انحداراً نحوها فيصدني
إذا رُمته دَينٌ عليّ ثقيلُ
وعند الوداع الأخير وقفت أمام القبر أتساءل:
وماذا بعد؟؟ وماذا فعلت بنا الأيام..؟
وقرأت الآية الكريمة كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (سورة آل عمران 185).
اللهم اجعله من الفائزين.. اللهم اجعله من الفائزين.. اللهم اجعله من الفائزين.. وأمواتنا جميعاً ومن له علينا حق برحمتك يا أرحم الراحمين.
وتذكرت قول الشاعر:
دبَّ فيّ الفناءِ سُفلاً وعُلوا
وأراني أموتُ عُضوا فعُضوا
ذهبت جدتي بطاعة نفسي
وتذكرتُ طاعة الله نضوا
لهفَ نفسي على ليالٍ وأيا
م تمليتهنَّ لعباً ولهوا
قد أسأنا كل الإساءة فاللَـ
هُمَّ صفحا عنا وغُفراً وعَفوا
وقول الآخر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كر الليالي ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها
أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
هذه خواطر جالت في النفس عند الذكرى الأولى لرحيل الراحل - رحمه الله - أحببت ذكرها، أما بقايا الذكريات - وهي كثيرة وعزيزة على النفس - فلها مكان آخر في وقت آخر إن كان في العمر بقية.