كتاب رائع للباحثة التونسية ليلى العبيدي، عنوانه “الفكه في الإسلام”، وهو عنوان هذا المقال، أجاب عن كثير من التساؤلات عن الجانب الحياتي من الدين الإسلامي، والجانب الحياتي هنا لا يُقصد به مسائل التعاملات والأحوال الشخصية والسياسة وغيرها من الأمور، لكن الجانب الحياتي الأكثر بساطة وقرباً من الناس، ولا يوجد شيء يوازي الجد أهمية في حياة الناس مثل الترفيه والضحك والترويح عن النفس..
هذا جانب حياتي روّج أعداء التسامح أنه مرفوض دينياً، ووضعوا عليه القيود، ووصلوا إلى تحريم الضحك! وقالوا إن التبسم يكفي؛ لأن الضحك يميت القلب!! وفسَّروا الحديث الشريف بشكل خاطئ، وتجاهلوا حقيقة أن قلّة الضحك أيضاً تميت القلب.. ولم يفهموا من الحديث الشريف “كثرة الضحك تميت القلب” سوى معناه اللفظي، دون تفكر أو تفحص، وكأنهم اقتنصوا الحديث لتسييد ثقافة “الغم” و”الهم” وتجييش المشاعر بسموم الكراهية وباسم الدين للأسف.
الحقيقة أن الذي يميت القلب تحوُّل الحياة إلى هزل دائم، وأن يكون الضحك بمعنى أو بدون معنى حاضراً، ببلاهة ودون تعقل، وهذا يختلف عن منطق وعاظ “التكشير والتنفير”، والتكشير من العبوس، ويؤدي إلى التنفير وخلق حالة من الجفاء، وفي الوقت ذاته فإن الهم والغم سبب في قتل المشاعر وتبلد الحس الإنساني؛ لذا يتوجب على الإنسان الاعتدال في كل أمر؛ حتى يحافظ على سلامة قلبه ونفسيته.
لكن الرسالة المهمة التي يجب أن تصل لكل مسلم أنه عليك أن تفرح وتسعد وتتمتع بنعم ربك سبحانه. وأسباب السعادة كثيرة، وأولها أنك مؤمن بالله سبحانه وتعالى، وتعبده وأنت تعلم أنه الله الواحد القهار، خالق السموات والأرض وما بينهما، وخالق البشر والحجر والنبات، وبيده الخير كله، وألا أحد من الجن أو الإنس يستطيع الإضرار بك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. وثاني الأسباب الكثيرة أن الدين الإسلامي العظيم دين سماحة ويسر ولين ومعاملة راقية، ومكارم أخلاق، ولا يقبل هذا الدين بشاعات التزمت، وظلامات العنف ومتاهات الكراهية.
وثالث الأسباب الكثيرة أن نبي الرحمة سيدنا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يضحك، ويمازح الصغار، ويعيش حياته كإنسان عليه السلام، لا يُخفي سعادته وفرحه، ولا يكتم ضحكه، ولا يمنع نفسه عن ذلك، والشواهد كثيرة، وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس.
وقد رأيناه في بيته - صلى الله عليه وسلم - يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري. وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصاً في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر رضي الله عنه غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما قال له: “دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد”!
وفي بعض الروايات: “حتى يعلم يهود أنّ في ديننا فُسحة”.
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم، ويقول: “دونكم يا بني أرفدة”.
وأتاح لعائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأساً ولا حرجاً.
واستنكر يوماً أن تُزف فتاة إلى زوجها زفافاً صامتاً، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: “هلاّ كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أو الغزل”.
وفي بعض الروايات : “هلاّ بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم.. فحيونا نحييكم”.
افرحوا، وافتحوا النوافذ؛ ليدخل عليكم شعاع من نور، ولتتنفسوا بعمق، وتستنشقوا عبير التسامح والسرور، وامنحوا عقولكم المتعبة وقلوبكم المرهقة استراحة من مشاغل الحياة اليومية والتزامات المعيشة الصعبة، وأسعدوا من حولكم بابتسامة رضا، تحمدون فيها الله سبحانه على ما أنعم به عليكم، سواء في الصحة أو الرزق أو صلاح الأبناء، أو محبة الناس، أو الأمن والأمان، واستشعروا هذه النعم، وتذكروها في أجواء فرح كما هي أجواء هذا اليوم المبارك.
أعجبني كثيراً كتاب ليلى العبيدي؛ لأنه يجمع كل ما بعثرته الأيادي العابثة، ويلملم كل ما لا يعرفه عدد ليس بقليل من الناس عن دينهم، الذي حاول المستفيدون إبعاده عن حياة الناس وإلباسه ثوب الشدة والقسوة.. وهذا كذب وافتراء وتشويه يجب أن يُكشف، لصالح الرسالة العالمية العظيمة التي حملها خاتم الأنبياء والرسل.
الأجمل لو فتحنا في العيد صفحة جديدة من الأمل، وأن نطوي خلافاتنا وأحزاننا، وأن نتفاءل، فالهموم تزيد، والهم لا يحل معضلة، ولا ينهي مشكلة، بل يزيدها ويعقدها.. وعلينا ألا نلتفت لمن يريد مصادرة الدين، ومصادرة ضحكاتنا وابتساماتنا وسماحتنا وأوقات سعادتنا، وأن نفرح في إطار دين نظَّم شؤوننا وعلمنا آداباً عظيمة، ستجعلنا إذا تمسكنا بها، على الأسس الصحيحة، أسعد الناس وأكثرهم طمأنينة.
جعل الله أيامكم أعياداً، وكل عام وأنتم بخير.
Towa55@hotmail.com@altowayan