ليس هنا موضع البحث في تأريخ انبعاث هذا المصطلح (الفوضى الخلاَّقة) لأن هذا الأمر لن تحيط به زاوية محدودة الكلمات؛ ولكنني أجد من المفيد أن أورد التعريف الدقيق كما ورد في الوكيبيديا ثم تطبيقاته السياسية التي نعيشها الآن بلون الدم والتخريب والفوضى «مصطلح سياسي / عقدي يقصد به تكون حالة سياسية أو إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث» وهنا يختلط مفهوم الفوضى الدينية بالسياسية في تصالح بين الليبرالية البراجماتية الأمريكية والمفهومات الغيبية النصرانية لدى اليمين المسيحي المتطرف؛ بأن المسيح المخلص سيكون له دور مشهود لإحلال السلام في العالم بعد عقود من الفوضى والخراب والدمار؛ ولهذا فإن إرباك المنطقة وإدخالها في حالة من التطاحن المرير لتخليق واقع جديد يكتسب شيئاً من الاستجابة لنداء المسيح حسب مفهومهم! وقد تحدث بهذا صراحة بوش الابن في خطابه الحاد المرتفع الصوت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م حين قال إن الحرب التي ستخوضها الولايات المتحدة الأمريكية هي حرب مقدسة؛ بل يقول إنها حرب صليبية جديدة!
وعلينا ألا ننسى أن الأدبيات الماسونية التي نشأت بتنظيرات يهودية في الأعم الأغلب كانت تعتمد هذا المصطلح المبهم وقتها لهدم العالم وإعادة بنائه، وقد اعتمد جورباتوشوف مصطلح «البسترويكا» لتفكيك الاتحاد السوفييتي والعودة إلى روسيا الأم والتوبة من خطيئة النظرية الشيوعية بمفهوم لا يبتعد كثيراً عن نظرية الفوضى الخلاَّقة «الهدم وإعادة البناء» وإن بصورة مخففة كثيراً عمَّا يحدث الآن في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي!
وكان تطلع أمريكا للهيمنة على العالم مع مطلع القرن الميلادي العشرين والثورة الصناعية الكبرى واستهلال عصر الحداثة وبوادر اختفاء المحور «ألمانيا وإيطاليا والإمبراطورية العثمانية» بعد الحرب الأولى وانهيار القيصرية الروسية ونشأة النظرية الشيوعية وتكون الاتحاد السوفيتي؛ كل ذلك دفع الولايات المتحدة الأمريكية للسعي الحثيث لتقتطع غنيمتها من العالم كما اقتطعت ذلك دول الحلفاء؛ لقد كانت أمريكا شريكة لهم بعد الحرب الثانية؛ لكن الحلفاء الأوربيين سيكونون شركاء لأمريكا في اقتسام العالم والهيمنة عليه بعد تحييد الاتحاد السوفييتي أو تفكيكه وهي المرحلة الطويلة التي خطط فيها لذلك وعرفت بالحرب الباردة، وربما نعتها بعضهم بالحرب الثالثة!
ولم يغفل اليهود الصهاينة عن تطلعهم أيضاً لتكوين وطن لليهود ثم توسيع نطاقه وإعلان قيام دولة إسرائيل الكبرى، وهو ما أثمر عنه وعد بلفور عام 1917م ولذا فقد اجتهد المنظرون الصهاينة في وضع الخطط الدقيقة المبنية على تراكمات كنسية لإكسابها لوناً من القداسة والمشروعية الأخلاقية الكاذبة بعدم إغفال الأهداف الإنسانية العليا عناوين رئيسة في نظرية «الفوضى الخلاَّقة» كمبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ومنها: حقوق المرأة، والأقليات، والطوائف، وحرية الديانات والتعبير عن الرأي، ونحو ذلك.
وقد كان هدف إسقاط الأمة الإسلامية ومن ضمنها الأمة العربية من التاريخ والوجود والمستقبل هدفاً واضحاً في نظرية الفوضى الخلاَّقة؛ لأن وجود أمة متماسكة تنهض على مبادئ أخلاقية وقيم مشتركة توحّد كلمتها سيكون العائق الأكبر أمام سيطرة أمريكا على العالم الإسلامي، كما عبّر عن ذلك برنارد لويس واضع مشروع الشرق الأوسط الجديد في مقالاته.
وللتدليل على صهيونية هذا المصطلح نجد أن ابن غوريون 1953م يشير إليه حين تحدث عن مشروع دولة إسرائيل الكبرى التي لن تقوم إلا بعد تفتيت العالم العربي وإعادة تقسيمه عن طريق إدخاله في الفوضى، ونجد المصطلح لاحقاً عند اليوت كوهين منظِّر الحرب على الإرهاب، وهو من يعتقد أن على أمريكا أن تنتصر في الحرب العالمية الرابعة على الإسلام الأصولي، وهو أيضاً عند مايكل ليدين من اليمين المتطرف، وهو عضو بارز في معهد أمريكا التربرايز، وهو من تولى صياغة المفهوم الدقيق للمصطلح وعرفه بأنه الفوضى البناءة أو التدمير البناء، أي الفوضى الناتجة عن عملية التحول الديموقراطي في البداية التي ستؤدي إلى وضع أفضل لاحقاً كما يزعم! وللحديث صلة.
moh.alowain@gmail.commALowein@