في سلوك الإنسان، لا سيما المسلم ما يجدد صلته بخالقه العظيم، حينما يعتري تلك الصلات شيء من الفتور، أو الكسل، والتراخي، أو التهاون. وبتجدد تلك العلائق تعمر حياة المرء القصيرة، إذ بها يقوى إيمانه إن تضاعف، ويزداد يقينه إن قل، وتسكن نفسه إن اضطربت. والإيمان بمعناه العظيم، وبغايته السامية، متى وقر في النفس انقادت له بقية الجوارح طائعة مذعنة، وأمست شاهدة له في يومه الموعود، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. يوم يفر فيه المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤيه.
) يوم (العيد) واحد من الأيام العظيمة في الحياة، وهكذا هي الحياة تتفاضل فيها الساعات، وتتفاضل فيها الأيام، وتتفاضل فيها الشهور، وتتفاضل فيها القرون، ويبقى اقتناص تلك السوانح واغتنامها مما يتفاضل به البشر، ويتباهون به أمام خالقهم.
) في (العيد) تتجدد علاقاتنا ببعض، نجتمع بعد طول افتراق، وترتاح الأنفس والأبدان مما اعترضها من كبد، وعنت، ومشقة. في (العيد) استعادة لذكريات جميلة، عمرت شطراً من الحياة، فيها ما يسر، وفيها ما هو خلاف ذلك. في لقاءات (العيد) تجتمع الأسر، ويجتمع أبناء الهجرة، والقرية، والمدينة، كبرت، أو صغرت، ولن تعدم تلك المناسبة العظيمة من تذكير بواجب اجتماعي، أو مشروع خيري، أو تنموي، جدير بالطرح والمناقشة والتبني، ومن حق هذا المجتمع المتكاتف، وهذا الوطن الشامخ أن يجد من يقوم على شؤونه من أبنائه البررة.
) في يوم (العيد) تجدد صلتك بأفراد حالت الأيام دون وصلهم بالصورة التي كانوا عليها، (المريض) الذي أقعده المرض، والشيخ (الهرم) الذي أخذت منه الأيام فتوته، و(الأيتام) الذين قلّ ناصرهم، وذهب معينهم، و(السجين) الذي حالت خطيئته بينه وبين من يود، ويأنس به. هذه الفئات من الناس، ستجد من بيننا من يجد فيها فرصة عظيمة للتواصل لا تعدلها فرصة. يوم (العيد)، وما أجمله!امتداد لأيام خلت عامرة بألوان الطاعات والقربات، استثمرها السعيد كأفضل ما يكون الاستثمار، وفرّط فيها من سيطرت عليه الرغبات والرغائب، والشبهات، والشهوات.
) في مجتمعنا، وفي مثل هذه الأيام، يتحرك أصحاب القلوب الرحيمة، والضمائر اليقظة تجاه فئات كتب عليها أن تلازم (الأسرة البيضاء)، في المنازل، أو المستشفيات، يستشعر الزائر عندهم بحضور مالك الملك، المنان، الوهاب، ذي القوة المتين، الفعّال لما يريد، وأيّ موقف يعدل ذلك الموقف. في مجتمعنا المتماسك، وكسنة من سنن الله في الحياة، يرزأ الإنسان بفقد عزيز، أوحبيب، وتتقاطر عليه الجموع، مواسين، ومعزين، على نحو لا تتجسد إلا في ذلك المجتمع المسلم، المتراحم، المتآزر.
) هناك من البشر، وفي مثل هذه الأيام من يقبع في السجن، أسير دين، أو رهن خطيئة، وفي مثل تلك المواقف تنبري النفوس السخية، التواقة إلى فعل كل خير. يهبُّ الفرد، فلا تعلم الشمال ما تقدمه اليمين لتلك الفئة المنكوبة. وإذا بالأسرة تلتئم بعد تشرذم، وتسعد بعد شقاء. هناك من البشر، وفي مثل هذه الأيام يجدّون في البحث، وفي غفلة من البعض، يبحثون عن (اليتامى والأرامل والمعوزين)، يخففون عنهم ألوانا من الجفاء، والهجر، والحرمان. هذه هي النفوس الكبيرة، تتجدد المناسبات، فتحيا قلوبهم بها، ويجدون في تلك الحياة أنسهم وبهجتهم، وسرورهم، وسعادتهم.
لأنهم يدركون تمام الإدراك أن المآسي، والمصائب، والكوارث، وتبدّل الأحوال إنما هي دول بين الناس، يشقى بها أقوام حينا من الزمن، وينعم بها الآخرون.
) إذا كانت تلك الفئات المبتلاة في حياتها، لا تشكل الغالبية، بفضل الأمن، والدعة، التي ننعم بها في هذه البلاد المباركة، فإننا نجد من بيننا من يتجاوز همه، وإحسانه، وبره، وتواصله إلى فئات أخرى تربطنا بهم آصرة الدين، واللغة، والتاريخ المشترك، حاصرتهم الحروب، وشتت شملهم، وقلّ الناصر، وضعف المعين. في مثل تلك المواقف تنطلق قوافل الخير، ويتبارى ذوي الجود والكرم، لإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وكسوة العاري.
بهذه الشمائل الكريمة، وتلك القيم النبيلة، يتجسد معنى الأخوة، ويبقى للعيد نكهته ومعناه.
) لن يكون الفرد سعيدا في يوم (العيد) إن لم يجد نفسه منغمسا، أو عائشا لكل ما أومأنا إليه، هكذا أعتقد.
(من أدب الرافعي)
) جاء يوم العيد... يوم السلام، والبشر، والضحك، والوفاء، والإخاء.. يوم تعم فيه ألفاظ الدعاء، والتهنئة مرتفعة فوق منازعات الحياة.. ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تلمح الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة.. (وكل عام وأنت بخير).
dr_alawees@hotmail.com