(1)
- على سرير مشفاه كان اللقاءُ الأخير حيث كنا (د. عبدالرحمن الشبيلي وصاحبُكم) في زياراتٍ منتظمةٍ له نلمسُ سعادتَه باستعادة ذكريات الشعر والسفر والأصدقاء، هنأناه بشهر رمضان ليلة دخوله وسره إبلاغُه بموعد تكريمه في مهرجان «عنيزة « الثقافيِّ الرابعِ فحكى عن ولادته فيها ومغادرتِه لها صغيرًا ثم عودته مرةً يتيمةً إليها حين كان وكيلاً لوزارة العمل والشؤون الاجتماعيةِ قبل عقود، وتحدثنا عن المتغيّرات التي سيراها حين يحضرُ افتتاحَ المهرجان والندوة المصاحبة فابتسم مبتهجًا ومتطلعًا إلى أن تسعفه صحته لقاءَ ناسه ومريديه في مناسبةٍ ثقافيةٍ بعُدَ عهدُه بمثلها ومقدرًا ثقةَ أحبته في الجمعية الصالحية ومركزها الثقافيِّ النشط.
- سبق القدرُ التقدير فاختاره الله إلى جواره في آخر جمعةٍ من الشهر الكريم، وعادت إلى الذهن حكاية واحدٍ من آخر نصوصه خصّ به «الجزيرة» وعنونه بـ»عهد» وتوجه به لرفيقة دربه «السيدة أم عبدالوهاب» - شفاها الله - وذكر من تقديم صاحبكم للنص هذه الكلمات:
(2)
«جاءت قصيدتُه لتحكي قصدَه؛ فهو الوفيُّ بشعره وشعوره، وهو الشاعر الساكن في أعماقه الحب؛ متجاوزًا ليديا والبحر ونساءً يعبرن في الغسق لامرأةٍ تختصر آفاقه وتُخاصر أعماقه ومآقيه؛ فيبثها همسًا يحتوي الصخب، وحنينًا يلمُّ الشتات، وانتماءً يتخطى محطات التيه.. عاد الشاعر هذه المرة وهاجسه أن يخاطب الحسنَ ويخطِب الحسناء ويغني للسنين؛ فيروي حكاية عمرٍ وتفاصيلَ حياة، ويبعث معها نشيدَ الوجد والتوحد في صورةٍ تزهو بها كل أنثى، وتعرف أن الحبَّ أقوى من تضاريس الجغرافيا وعقوق التأريخ..
عاد أبو عبدالوهاب لينشد لحن جمالٍ في زمنٍ لا يعترفُ بمقاييس الثبات فيحتكم للمتغير، ويحدوه شدوُ الغريبةِ؛ فيحسب أنها ليلى قيس وهي بلقيس نزار.. كذا جاء نص الشاعر الكبير محمد الفهد العيسى «المنشور صفحةً كاملةً ملونةً في الجزيرة» ليعطينا معنيين ذوي فواصل ونقاط؛ فطمأننا على الشعر الذي لا يهرم، والشاعر الذي لا ينسى، والمشاعر التي لا تتحول إلى شعارات، ولتخلد «أم عبدالوهاب» في نصٍ هو كل النصوص»
(3)
**الشعر لا يهرم فعلاً ولو هرم الشاعر كما لا يموتُ ولو رحل صاحبه، وتذكر سماتٍ كثيرةً في هذا الإنسان المبدع لخصها مقاله عنه المضمنُ في ملفٍ خاصٍ أصدرته الثقافية عام 2008 م عنوانه: « هل نسيناه « وجاء فيه:
(حظنا أنه من هنا، وسوء حظه أنه لم يكن من هناك، وإلا لأصبح رقماً إبداعياً معادلاً لقيم شعرية لديهم تبوأت القمم.
واجه الإغلاق بأفق مفتوح، ودفع ثمناً غير يسير، وبشر بالنصر بعد الصبر.
صبراً أخا الحرف لا تعجل ولا تلم
فلن أضيع أنا أقسمت بالقلم
وهذا مطلع قصيدته (التاريخية) عن (حرية الفكر) التي اضطرته إلى التواري في بيته سنوات دون أن يبتئس وينتكس، فهل كان يتنبأ قبل نصف قرن (1385هـ) بما آلت إليه الحال الثقافية بعد ما تحكم تيار واحد في المسار دون أن يكون الخلاف مرتبطاً بثوابت بل بأفهام وتفاسير ورغبة في الاستعلاء وحرص على الاستعداء:
الشمس تشرق من كفي أشعتها
إن تسجن الشمس عن أرضي وعن أكمي
يا غارة الدين باسم الدين كم رفعت
رايات زور وبهتان على أمم
عاشوا دعاوى فليس الدين غايتهم
بل التكالب في الدنيا على الرمم
هم ذكرونا بعهد كان من زمن
فيه محاكم للتفتيش لم تدم
(ديوان أين قفاة الأثر (1428هـ) ص41-45)
النص طويل لكنه يختصر حكاية ثقافية سبقت (حكاية الحداثة)، وربما كانت أحد إرهاصاتها التي لا تنفصل عنها.
تواصل الشاعر العيسى ليرسم لوحات العشق للأرض والأنثى غير آبهٍ بالأصوات المعترضة، وأعطاه اغترابه عن الوطن دفقاً عاطفياً جميلاً لا تثنيه الرقابة أو القيود، ولم يكن غيابه سوى حضورٍ هادئ أبعده عن ذاكرة الإعلام ليبقى في طليعة الأعلام.
وجد العيسى سلواه في البحر والنهر، والسهل والصخر، والطفل والمرأة، ووجدنا عزاءنا في صورة شاعر أحب للحب، وأضاء في الدرب، وظل شاعر الخصب في زمن الجدب.
الإنصاف يأتي متأخراً)
(4)
** غاب أبو عبدالوهاب وصاحبكم ناءٍ عن الرياض فلينب الدعاءُ والوفاءُ ولنا موعدٌ قريبٌ مع ذكراه في مناسبةٍ تضيءُ بضياء شعره وبياض مشاعره... رحمه الله.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon