Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 01/08/2013 Issue 14917 14917 الخميس 23 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الثقافية

ولا يقف (أفلاطون) عند هذا الحدِّ في نظرته تلك، بل إنه يتوسَّع فيها ويُفسِّر بواسطتها حقائق الوجود ومظاهره، فعنده أنَّ الحقيقة -وهي موضوع العلم- ليست في الظاهرات الخاصَّة العابرة، ولكن في المُثُل والصور الخالصة لكلِّ أنواع الوجود، وهذه المُثُل لَها وجودٌ مستقلٌّ عن المحسوسات، وهو الوجود الحقيقي، غير أننا لا ندرك إلا الأشكال الحسيَّة التي هي في الواقع ليست سوى خيالات لعالَم المُثُل.

وفي الكتاب السابع من (الجمهورية) يذكر (أفلاطون) تشبيهه الرمزي المشهور لِمدى إدراكنا للأشياء بسردابٍ فيه جَماعةٌ على مقعد، وظهورهم لفتحةٍ ضيقةٍ منه، وأمام الفتحة نارٌ عالية اللهيب، فهم يرون على ضوئها مناظر أشباحٍ تتحرَّك منعكسة على الحائط أمامهم، وهذا مبلغ إدراكنا لِما نعتقد أنه حقيقة الأشياء، فما نراه في هذا العالَم ليس سوى انعكاسٍ لعالَم الصور الخالصة، كانعكاس الأشباح على حائط ذلك السرداب، وعالَم الصور الخالصة هو عالَم الحيِّز والحقِّ والجمال التي هي مقاييس لِما يَجري في منطقة الحس، وجَميع ما في عالَم الحسِّ مُحاكاةٌ لتلك الصور، والنظم الإنسانية بدورها مُحاكاة، فكُلُّ الحكومات مُحاكاةٌ للحكومة الصحيحة المثالية في عالَم الصور والأفكار، والقوانين نفسها مُحاكاة الخصائص الحقيقية كما دوَّنَها الناس في حدود ما استطاعوا.

ويرى (أفلاطون) –وفق ذلك- أنَّ الأعمال والفضائل والنظم مُحاكاةٌ كُلُّها، شأنَها في ذلك شأن الأشياء، واللغة بدورها مُحاكاة لِما ندركه من الأشياء التي هي بدورها مُحاكاة، فالكلمات مُحاكاةٌ للأشياء بطريقة تُخالف الرسم والموسيقى لَها، والحروف التي تتألف منها الكلمات هي أيضاً وسائل مُحاكاة، وفي هذا تدلُّ المحاكاة عند (أفلاطون) على العلاقة الثابتة بين شيءٍ موجود وأنموذجه، والتشابه بينهما يُمكن أن يكون حسناً أو سيئاً حقيقياً أو ظاهرا.

وطبعيٌّ أن يؤثِّر إيمان (أفلاطون) العميق بِهذه النظرية على موقفه من الأجناس الأدبية ورؤيته لَها، أمَّا الشعر فقد كان عنده ضرباً من ضروب المحاكاة والتقليد، حيث إنَّ الشاعر –في نظره- ليس سوى مُقلِّد، غير أنه لا يُقلِّد الحقائق وحدها، بل يُقلِّد ظواهر الحياة الجارية التي فيها من النقص الشيء الكثير؛ ولذلك فقد وصف الشعر بأنه تقليدٌ سخيفٌ ونقلٌ مُشوَّهٌ لعالَم الحقائق، والشاعر حين يُقلِّد يضع أمامه صوراً من هذا العالَم، وهذا العالَم تقليدٌ لعالَم المُثُل، فالشعر عنده تقليد التقليد!

و(أفلاطون) يتَّهم الشعراء باللهو والجهل؛ لأنَّهم مُقلِّدون لا يبحثون عن الحقيقة، والشاعر لو كان فاهِماً لطبيعة الأشياء التي يُقلِّدها لوجَّه نَحو الأعمال الحقيقية جهداً أعظم جداً من جهده في تقليدها، كما أنه يرى أنَّ الشعر عملٌ غير جديرٍ بِمقام الذكاء البشري؛ لأنه تقليدٌ سخيفٌ يُفسد أكثر الناس، حتى الصالِحين منهم، بل هو من أشدِّ بواعث الفساد؛ لأنَّ الشاعر المقلِّد يغرس نظاماً شريراً في نفس كلِّ فرد، ولأنه يعمل على إرضاء العواطف الدنيا في الأفراد والجماعات.

ويَجد (أفلاطون) مدخلاً آخر لإدانة الشعراء، وهو مُخاطبتهم للعواطف، فبدلاً من أن تكون مُهِمَّة الشعر تَجفيف العواطف نراه يقوم بِمُهمَّةٍ معاكسة، إذ يؤجِّج عواطف الناس ويُلهبها، وهو بِهذا يُبعدهم عن استخدام العقل، ويَجعلهم أكثر عرضةً للاستسلام للعواطف.

غير أنَّ (أفلاطون) -مع كلِّ هذا- لَم يستطع أن ينكر الشعر إنكاراً تاماً، فقد عرف حياة هذا الفنِّ بين اليونان، وعرف آثاره في حياتِهم، وولوعهم بإنشاده وتَمثيله على خشبات المسارح، كما صرَّح في كثيرٍ مِمَّا كتب باحترامه لشاعر اليونان الأكبر (هوميروس) الذي كان يَعُدُّهُ منذ حداثته الأمير الأعظم لشعراء المآسي والمراثي، ولكنه مع ذلك كان يرى أنَّ من أعظم الخطأ التضحية بالحقيقة إكراماً لإنسان، مهما كان ذلك الإنسان، فهو لا يُبيح الشعر في دولته إباحةً مطلقة، بل يُقيِّدها بأن يكون ذلك الشعر الذي يُنشد في الدولة هو الشعر الذي يُنشد في تسبيح الله وتَمجيده، وفي مدح الصلاح، وفي التعرُّف على الحقيقة.

ولِهذا نَجد (أفلاطون) يُرتِّب أجناس الشعر على حسب دلالتها الأخلاقية المباشرة، فيُفضِّل نسبياً الشعر الغنائي؛ لأنه يُشيد مباشرةً بأمجاد لأبطال، يلي ذلك شعر الملاحم؛ لأنَّ النقائض المصوَّرة فيه لا تؤثِّر في مصير البطل، ولا تُقلِّل كثيراً من إعجابنا بوصفه بطلا، ويأتي بعد ذلك شعر المآسي ثُمَّ الملهاة، فهما أسوأ نَماذج الشعر؛ لِمساسهما المباشر بالخلق.

ولا عجب أن يتَّجه (أفلاطون) هذا الاتِّجاه الأخلاقي والإصلاحي، فقد كان مُصلحاً اجتماعياً قبل أن يكون فيلسوفا، هاله ما آلت إليه (أثينا) من تدهورٍ اقتصاديٍّ وضعفٍ سياسيٍّ وانهيارٍ أخلاقي، فأخذ يبحث عن أسباب الفساد، ويرسم سبيل الإصلاح، ولعلَّ هذا التوجُّه هو السبب في سلوك نظريا ته المنحى الأخلاقي والإصلاحي.

Omar1401@gmail.com

مُحاكاة (أفلاطون).. والأجناس الأدبية (2)
د. عمر بن عبدالعزيز المحمود

د. عمر بن عبدالعزيز المحمود

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفجوال الجزيرةالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة