قال أبو عبدالرحمن: الصدق المنطقي هو الأمين مع الواقع، وأعالج هذه الظاهرة بقصيدةٍ بين (التراث) وبين الحداثة، وقصيدةٍ تراثية؛ فالأولى قصيدة إلياس فرحات عن قصة راهبة متخيَّلة رماها الزمان بهجر الحبيب؛ فداوت ضلالَ الهوى بالهُدى.. ويقوم السرد القصصي على صورٍ
من الوصف أو التشبيه؛ ففي ناظريها بريق الأسى، وعلى وجنتيها شحوب المساء، وهي في صباح الحياة.. ثم يأتي القَصَصُ بعد ذلك شِبْهَ عاديٍّ سوى تخيُّلٍ بسيط يعتمد على الذاكرة؛ لأنه من مأثور شعر الرومانسيين كعناق الزهور.. وقدَّم أول السرد موجَزاً لبداية قصة الراهبة التي آثرت الانزواء في (الدَّيْر) على ممارسة الحياة العامة.. قال:
تحاول نسيانَ محبوبها
وزهوَ الشباب وعزَّ الغنى
تت
وأقسى من الحب كتمانُه
وأنكى من الهجر فَقْدُ الرجا
تت
فبهر بالبيت الأخير المتلقِّي كأنه جاء بتقعيد جديد عن فلسفة العشق والعشاق كما في الزهرة وطوق الحمامة وكتاب مُغْلُطاي.. إلخ.. وكل هذه الأحداث عند إطلالتها من الدير ذات يوم عند الضحى، ثم ذكر خروجها لما بدت شمس النهار خارج الدير .
قال أبو عبدالرحمن: كيف يكون بدوُّ الشمس بعد الضحى؛ وإنما ظهرت له بعد بُدوِّها وانتشارها بساعات؟!.. إن الشمس في الضحى قد تجلَّت ولم تَبْدُ؛ وإنما الراهبة بدت خارج الدير تجمع من حوله ضمَّة من الزهر تُهدى لفادي الورى -وفادي الورى لها معناها في قصة الصَّلْب-؛ فرأت زهرة في أعالي الجدار؛ فأعجبها شكلُها المستطيل، ولونها الذي شبَّهه بقوس قزح (وسماه ضرورةً قوس السحاب)، وأعجبها أمر ثالث أهم، وهو رفعتها من حيث كانت تعِزُّ على من يريد الجنى.. بعد هذا يأتي الجمال الفني في هذه القصيدة بالتفاعل بين حياة الراهبة وحياة الزهرة.. قالت الراهبة عن الزهرة الجميلة المعتزلة المنيعة المشابهة واقعَ الراهبة نفسها:
أُخيَّة يَهْنيك هذا السُّمُوُّ
وهذا البهاء وهذا الرضا
ولكن أما كان أشهى لديكِ
جوارُ الأزاهير بين الرُّبى
تحوم عليك بنات القَفير
وتسعى إليك صبايا القرى
وتُسمعك الطير إنشادها
ومنه الحجاز ومنه الصَّبَا
لَأنْتِ تعيشين في عُزلة
فلا في السماء ولا في الثرى
لمن خلقَ الله هذا الجمال
ومن يتنشَّقُ هذا الشذا؟
وبنات القَفير هُنَّ النحل؛ لأن القَفير خليَّتُها، وذكر الحجاز والصَّبا وهما من المقامات.. والجمال الفني ههنا هو من ضمن عناصر الجمال في فن القصة، وهو بيت القصيد من القصيدة.. الجمال في تأتِّي الخيال في تصوُّر راهبة بذلك المستوى من الجمال تعتصم في الدَّير، ثم يلتقط خياله شبيهاً لها يحكي بلسان الحال قصتها، وذلك هو الزهرة من الأحياء غير الناطقة.. ولو وقف عند هذا الحد لكان هذا القدْر من الجمال الفني كافياً، ولكان المُـتلقِّي يتخيَّل وساوس الراهبة من خلال نجواها للزهرة، ولكنه أراد شيئاً من المونولوج [قال أبو عبدالرحمن: المونولوج حديث النفس يُعمِّقُ الحِسَّ الجمالي؛ وذلك هو رجع الصدى].. قال:
ولما نضت ثوبها لتنام
تبيَّنَ من حسنها ما اختفى
فمدَّت إلى صدرها كفَّها
وقد فَتَّح الوردُ تحت الندى
وقال لها قائل صامت
وكان الذي قيل رجْعَ الصَّدى
(لأنتِ تعيشين في عزلة).. إلى آخر البيتين.. على أن الراهبة حَقَّاً لا ترى الجمال الدنيوي، ولا تحسُّ منه جمر الغضى، بل نعيمها فيما نذرت نفسها له، وإن لم يكن ذلك فهي راهبة مُزيَّفة؛ فهذا هو الصدق المنطقي الذي أعنيه.. وشعر الحداثة اليوم تجاوز مثل هذا التخيُّل الرومانسـي؛ لأن أمثاله كثرت في شعر المهجريين وغيرهم؛ فكان هذا الجمال العتيق مرتبطاً بالذاكرة الأدبية أكثر من ارتباطه بملكة الخيال، وتخلُّفُ الصدق المنطقي في جزيئةٍ بثرةٌ في جمال القصيدة غير قاضٍ عليه بإطلاق.. والثانية قصيدة معروف الرصافي (نحن والماضي) أكثر انطباقاً على واقعنا البالغ الغاية في التردِّي، وليست هي هجاء لعصماء الفخر ما لم يكن فخراً جديداً؛ بل هي استحياء له، فالصدق المنطقي ههنا موجود بخلاف راهبة إلياس فرحات.. لقد استجاب الرصافي لقصيدة الفخر تلبيةً لرغبة مَن طلب منه ذلك -حقيقة، أو تخيُّلاً-، وكان مما قاله عن قومه العرب:
فهمْ فتحوا البلاد ودوَّخوها
وقادوا في معاركها الجنودا
وهم كانوا أشد الناس بأساً
وأمنعَ جانباً وأعمَّ جُودا
وأرجحهم لدى الجُلَّـى حلوماً
وأصلَبهم لدى الغَمَرات عودا
ولكن أيها العربيُّ أنَّى
أراك لغير ما يُـجْدي مريدا
وما يجدي افتخارُك بالأوالي
إذا لم تفتخر فخراً جديدا
وانطلق الرصافي بسردٍ منطقي مثل قوله:
وهل أن كان حاضرنا شقِيَّاً
نسود بكون ماضينا سعيدا؟
وعزَّز هذا الاحتجاج بقوله:
قد ابتسمتْ وجوهُ الدهر بيضاً
لهم ورأيننا فعبسْنَ سودا
وقوله:
وقد عهدوا لنا بتراثِ مُلكٍ
أضعنا في رعايته العهودا
وعاشوا سادة في كل أرض
وعشنا في مواطننا عبيدا
قال أبو عبدالرحمن: لا أظن عصماء الفخر تستحق الهجاء إذا أظهرتْ الهمةَ العالية إلى سلوك حيٍّ بعد أن كانت ضميراً مستتراً، ولم يُصرِّح الرصافي بهذا المعنى، ولكنني أظن أنه أوحى به في قول من طلب منه قصيدة فخر -كما قص ذلك الرصافي-:
وأنت إذا قرعتَ به عبيداً
رددتَ إلى الحَرارِ بها العبيدا
ولو تستنهض الجبناء يوماً
به لتقحَّموا الهيجا أسودا
إلا أن حكاية الرصافي لواقعنا جعلت أمتنا الراهنة عبيدَ عبيدٍ؛ لأن العصماء لا تردُّهم ولا تتقحَّم بهم.. إن هذه القصيدة بمعايير ابن قتيبة وابن رشيق.. إلخ من القمم في جماليات التراث، ومعانيها متدفقة بلا تكلف؛ لأنها مستجيبة لألفاظ سهلة وإن لم تكن من السهل الممتنع.. وهذا الجمال التراثي المملول سيعود حتماً كالجمال المبتدع لدى الحداثي؛ لأنه أصدق دلالة على عصرنا؛ وذلك عندما يكون المتلقي ذا هم عربي إسلامي وطني إنساني.. أما أدباء الثقوب الذين يتشفَّون بآلامنا من الشعوبيين والطائفيين فلا يعجبهم العجب، وقد مزَّقوا برقع التَّقيَّة منذ نكسة حزيران إلى هذه اللحظة التي يُذِلُّ فيها أبناء صهيون وجودنا الغثاءَ، وتاريخنا الجهوريَّ !!.. ويحلو الشعر التراثي كلما جسَّد همَّاً حاضراً.. والصدق المنطقي ههنا في الاعتراف بالماضي المجيد، والتصوير لواقعنا الأليم منذ بدأت الأمة تنسلخ مِن هُوِيَّتها وتكتب سفر الخروج، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -