كانت ألسنة النّيران تلتهم أقراص الخبز داخل الفرن، وأجساد النّاس تتدافع بحثاً عن الخبز الحار، وكان هو يقف بعيداً عن معركة التّميس، هناك عند جرّة الفول، سارحاً شارداً، لا يشعر بما يموج حوله من أحداث، وكنت أقف في مواجهته مُنتظراً دوري للحصول على التّميس ! وفجأة ً فجّر الصّمت كلاماً وقال:
ما الفرق بيني وبينك؟
فُوجئت بالسّؤال..وتلعثمت ثم قلت: كلانا مسلم يا أخي!
ضحك باستغراق وكأنّما شعر بما في إجابتي من حُسن تخلّص ليس إلاّ وأردف: قلت لك الفرق.. لا الشّبه!
قلت محاولاً تغيير الموضوع: لا فرق!
قال موضّحاً أقصد ما همومك؟ بماذا تفكر؟ ما الّذي يشغل بالك؟
قلت: ككل النّاس أسعى لأعيش حياة كريمة هانئة مستقرّة إن شاء الله.
قال حدّد أكثر..
قلت أنا الآن مشغول ببناء بيت خاص وأسعى للانتهاء منه بأسرع وقت.
ضحك وقال الآن أجبت عن سؤالي. قاطعه زبون.. “ريالين فول.. قلابة قلابة..” وعلى وجهه علامات الامتعاض أعطاه طلبه وهو يقول لي أنا معك.. أنا معك. وأردف أنت كما يبدو صغير في السن، أُعطيك 25 سنة.. قلت 27 سنة.. قال وأنا عمري 50 سنة..
قُلت: ماذا تقصد؟
قال: رغم فارق السن بيننا إلاّ أنني لا أستطيع أن أحلم مثلك ! شعرت بخوف وقلت له: قل ما شاء الله.. قال ما شاء الله.. لا تخف.. لا تخف،
قلت له: لم أفهم؟
قال: أنا هنا مفارق لأبي وأمّي.. وزوجتي وأبنائي.. وأعيش في غُربة قاتلة أُصارع الشّوق والوقت والألم (والنّار) وكل شيء.. إنني هنا لا لأحقّق المعجزات.. لا لأصبح ملكاً.. أو وزيراً.. أو صاحب شركات وأملاك.. لا لا.. إنني بين كل تلك المتناقضات.... فقط لأرسل لأهلي كل فترة مبلغاً من المال يعيشون به.
أنا هنا لا لأُحسّن وضعي كما يقولون.. ولا لأُجدّد حياتي.. أو أُغيّر طريقتها ! بل لهدف أقل من ذلك بكثير! وهو أن تستمر حياتنا بكل نواقصها.. بكل بدائيّتها.. بكل ألمها وعذاباتها.. نعم فحياتنا ألم وعذاب ومع ذلك نحن راضون بها.. لكنّها هي لم ترض بنا !فهانحن نقطع المسافات..ونغيب السّنوات.. ونعق الأمّهات.. ونهجر الزّوجات.. فقط لتستمر حياتنا على ما هي عليه ليس إلا !
نحن لا نحلم بتجديد حياتنا، وأنتم هنا.. وقال: ما شاء الله.. ما شاء الله!وأنتم هنا تجدّدون حياتكم كل يوم..!
نحن نعيش الحياة من جانب واحد.. وأنتم تعيشونها من كل الجوانب!
ليس ذلك فقط.. بل وتحرصون على الكماليّات حرصكم عل الضّروريّات.. فالسيّارة آخر موديل، والبيوت على أفضل طراز، والزّوجات مثنى وثلاث ورباع ! وتحرصون على الوصول لدرجة الإشباع في كل شيء.. ونحن بالكاد نصل لدرجة الكفاف!
وأخيراً أطرق صامتاً.. وقد فرّت من عينيه دمعات حزينة.. وكان النّاس قد انفضّوا من حولنا لصلاة العشاء،
ثم رفع رأسه وقال بحشرجة حزن كثيف: صلاة.. صلاة.
وحينها لملمت بقايا عقل شارد.. وقلب مفتّت.. وجسد مُنهك... (وخبز بارد).. وامتطيت صهوة سيارتي وأنا أُتمتم: كلّ مُيسّر لما خُلق له.. كلّ مُيسّر لما خُلق له.