فقيه العراق: النّعمان بن ثابت، برز وكما التيمي بالولاء، مولده سنة 8، رأى أنس بن مالك غير مرة، وبعض الصحابة كان إماماً ورعاً، عالماً متعبداً كبير الشأن، لا يتقبل الجوائز، بل يتجر وبتكسب. أصله من أبناء فارس. نشأ بالكوفة وكان يبيع الخزّ ويطلب العلم في صباه.
قال ضرار بن صرد سئل يزيد ابن هارون أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال أبوحنيفة أفقه الناس وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة وقال يزيد ما رأيت أحداً أورع ولا أعقل من أبي حنيفة.
وقد روى تلميذه أبو يوسف قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعاً، ثم قال الذهبي على هذه الخصلة: قلت: مناقب هذا الإمام قد أفردتها في جزء، وكان موته في رجب عام 150 رضي الله عنه، نقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد، فأراد أن يولّيه القضاء فأبى فحلف عليه ليفعلن.
فحلف أبوحنيفة أن لا يفعل، فحلف المنصور ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، وقال: إني لا أصلح للقضاء، فقال الوزير الربيع بن يونس: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفّارة أيمانه أقدر مني على كفّارة أيماني، وأبى أن يلي القضاء، فأمر به إلى الحبس في الوقت.
والعوام يدعون أنه تولى القضاء عدة أيام، ليكفر عن يمينه.
وقال الربيع: رأيت المنصور ينازع أبا حنيفة في أمر القضاء، وهو يقول: اتق الله ولا ترمي أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون النقب؟ ولو أتمه الحكم عليه، ثم تهددني أن تغرقني في الفلات، أو تلى الحكم لأخذت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، ولا أصلح لذلك.
فقال له المنصور: كذبت أنت تصلح فقال له: قد حكمت على نفسك كيف يحل أن تولي القضاء على أمانتك قاضي كذاب؟
أما الخطيب البغدادي، فقد أورد هذه الحكاية فقال: إن المنصور لما بنى مدينته، ونزلها المهدي في الجانب الشرقي، وبنى مسجد الرصافة، أرسل إلى أبي حنيفة، فجيئ به فعرض عليه قضاء الرصافة فأبى، فقال له: إن لم تفعل ضربتك بالسوط، قال: أو تفعل؟ قال: نعم فقعد في القضاء يومين، فلم يأته أحد، فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفّار ومعه آخر، فقال الصفّار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق، ثمن تور صفر، فقال أبو حنيفة اتق الله وانظر فيما يقول الصفار.
قال: ليس له علي شيء فقال أبوحنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال الرجل: استحلفه لي فقال أبو حنيفة للرجل: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة معتمداً أن يقول، قطع عليه وضرب بيده على كمه، فحل صرة، وأخرج درهمين ثقيلين، وقال للصفار: هذان الدرهمان عوض عن باقي تورك، فنظر الصفار إليها فقال: نعم وأخذ الدرهمين.
فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات، هذا موقفه مع القضاء، وعن موقفه مع تلميذه أبي يوسف فقال الفضل بن غانم: كان أبو يوسف مريضاً شديد المرض، فعاده أبو حنيفة مراراً فصار إلى آخر مرة فرآه ثقيلاً فاسترجع، ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير، ثم رزق الله أبا يوسف العافية، وخرج من الغد فأخبر بما قال أبوحنيفة فيه فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فقعد لنفسه في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة فسأل عنه فأخبر عنه أنه عقد لنفسه مجلساً، وأنه يلقى كلامك فيه، فدعا رجلاً كان عنده له قدر فقال: زر إلى مجلس يقعوب - أبي يوسف - فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: مالك عندي شيء، وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مقصوراً، أله أجرة.
فإن قال لك: له أجرة فقل له أخطأت، وإن قال: لا أجرة له فقل له أخطأت، فسار إليه وسأله فقال أبو يوسف له أجرة، فقال: أخطأت، فقام أبويوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة، فقال: ما جاء بك إلا ما له القصار؟ قال: أجل، قال: سبحان الله من قعد يفتي الناس، وعقد مجلساً يتكلّم في دين الله وهذا قدره، لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟ فقال: يا أبا حنيفة علّمني، فقال: إن كان قصره بعدما غصبه، فلا أجرة له، لأنه قصر لصاحبه ثم قال: من ظنّ أنه يستغني عن التعليم فليبك على نفسه.
وكان أبو حنيفة إمام في القياس، قال علي بن عاصم دخلت على أبي حنيفة، وعنده حجام يأخذ من شعره، فقال للحجام: تتبع مواضع البياض، فقال الحجام، لا إنها تزد، فقال: ولِمَ؟ قال: لأنه يكثر. قال: إذاً تتبع السواد لعله يكثر، وطابت هذه الحكاية لشريك فضحك وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه لتركه مع الحجام.
وعن طريقته في الدعوة والرفق فيها، يقول عبدالله بن رجاء: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة، اسكاف يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنّه الليل، رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه او سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دبّ الشراب غرّد بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبوحنيفة يسمع جلبته كل ليلة، وأبوحنيفة كان يصلي الليل كله، ففقد أبوحنيفة صوت جاره هذا أياماً فسأل عنه. قالوا: أخذه العسس منذ ليالي وهو محبوس، فصلى أبوحنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير، فقال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته، ففعل به ذلك.
ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ فقال لي جار اسكاف وهو يصلح الأحذية، أخذه العسس منذ ليالٍ يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكل من أخذ في تلك الليلة، إلى يومنا هذا.
بتخليتهم أجمعين، فركب أبوحنيفة والاسكاف يمشيى وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه، وقال: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: لا بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرا، عن حرمة الجوار، ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه.
ومن ذكائه وفطنته وحسن فتاواه التي تدل على سعة علمه وفقهه يقول ابن شبرمة، كنت شديد الازدراء إلى أبي حنيفة، فحضر الموسم وكنت حاجاً يومئذ، فاجتمع الناس حوله يسألونه، فوقفت حيث لا يعلم من أنا فجاءه رجل فقال: يا أبا حنيفة قصدتك أسألك عن أمر أهمني وأزعجني، قال: وما هو؟ فقلت: لي ولد وليس لي غيره، فإن زوجته طلّق، وإن سرّيته أعتق، وقد عجزت عن هذا، فهل من حيلة؟ قال له: نعم اشتر الجارية التي يرضاها لنفسه، ثم زوجها منه، فإن طلق رجعت إليك مملوكتك، وإن عتق أعتق ما لا يملك وإن ولدت ثبت نسبه لك، فعلمت أن الرجل فقيه من يومئذ، وكففت عن ذكره إلا بخير.
وذكر الجوهري: أن أبا حنيفة، قد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار، وكان إنما انفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وهذا يدل على حبه للصدقة وفعل الخير،
وابنه حمّاد بن أبي حنيفة كان صاحب علم ودين وصلاح وورع تام، لما توفي والده كان عند ودائع كثيرة، وأهلها غائبون فنقلها حمّاد إلى الحاكم ليتسلمها، فقال: بل دعها عندك فإنك أهل، فقال: زنها وأقبضها حتى تبرأ منها ذمة الوالد، ثم افعل ما ترى، ففعل القاضي ذلك وبقي في وزنها وحملها أياماً وحسبها واستشر حمّاد فما ظهر حتى أودعها القاضي عند أمين.
وقال عنه الزركلي أراده عمر بن هبيرة أمير العراقين على القضاء ورعاً فامتنع درعا،، وأراده المنصور القباسي بعد ذلك على القضاء ببغداد فأبى فحلف عليه لفعلن، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل فحبسه إلى أن مات.
قال ابن خلكان هذا هو الصحيح.
وكان قوي الحجة، من أحسن الناس منطقاً، ووصفه الإمام مالك بقوله: رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته، وكان كريماً في أخلاقه، جواداً حسن المنطق والصورة، جهوري الصوت إذا حدث انطلق في القول، وكان لكلامه دوي.
أما الشافعي فقال عنه: الناس عيال عليه في الفقه، له سند في الحديث مخطوط جمعه تلاميذه عنه.
عاش سبعين سنة ومات في بغداد، وأخباره، وقد ألف عنه وفي سيرته ومكانته كثيرون (9-4) كما توسع في سيرته ومكانته وعلمه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء.
mshuwaier@hotmail.com