حرصت على الاطلاع على هذا الكتاب منذ سمعت بصدوره (من دار مدارك: 2013) لسابقة معرفة بمؤلفه، ولما سمعته عنه من عدد من المعجبين به والناقدين أثناء عملهم معه سواء بمعهد الإدارة العامة أو في الشركة الموحدة للكهرباء أو صندوق التنمية العقاري وفور حصولي على الكتاب بدأت بقراءته، وقد شدتني صراحته ووضوحه.. وزاد إعجابي إنصافه لمن عمل معهم وذكرهم بما يستحقونه وانزالهم بمنزلتهم الصحيحة رغم اختلاف الآخرين حولهم وأذكر منهم على سبيل المثال من زاملهم وعلى الأخص: فهد الدغيثر وغازي القصيبي وعبدالحميد شومان ويوسف الحماد وعبدالله الوهيبي – رحمهم الله – صحيح أنه كتب الكتاب قبل وفاة الأولين إذ لم يترحم عليهم، رغم أنه لم يمر على الآخرين إلا وأسبغ عليهم الرحمة والغفران.
إذا تجاوزنا طفولته وتعليمه الأولي بالأردن وبداية عمله كمبتدئ في تخليص البضائع لدى (المديفر) بالحدود الشمالية (طريف)، ثم بحثه المضني عن عمل بالرياض والدمام وجدة، ثم مشاركته (المطيويع) ببيع البطيخ في تبوك وعرعر.
عاد للرياض وبدأ البحث والمشاركة في المسابقات الوظيفية التي يعلن عنها في الوزارات ولم يوفق إلا أنه وبالصدفة قابل شاباً كان يدرس معه بالأردن وكان يعمل في البنك العربي وهو يهم بتقديم استقالته لرغبته الالتحاق بكلية الشرطة بمكة، فتوسط له ليحل محله بالبنك فتم تعيينه براتب أساسي (200) ريال وبدل غلاء معيشة (200) ريال وبإجمالي راتب شهري (400) ريال، وليذكر زيارة مؤسس البنك – عبدالحميد شومان – لفرع الرياض واحتفائهم به، وعندما وقف بالقرب من مكتبه ووجد بعض الدبابيس متناثرة في الأرض قال بصوته الجهوري : ما هذا التسيب في نثر الدبابيس.. إن لها قيمة مادية وتعود لمساهمي البنك من أرامل وورثة وأيتام، ولا يجوز أن نتركها بهذا الشكل. فاعتبرها درساً لن ينساه.
كتب عن زيارته لبلدة أجداده (قصيبا) بمحافظة عيون الجوى بالقصيم، وتعرفه على من بقي من أقاربه ممن لم يرحلوا أو يفتك المرض المميت بالبقية الباقية. ولكونه يكتب ويأكل بيده اليسرى فقد اشترى من الصيدلية لفافة قماش ليربط بها يده اليمنى حتى لا يستنكر عليه.
وصله خطاب من والده بالاردن يبلغه أن عمه – عبدالرحمن – قد حصل له على بعثة دراسية بجامعة يوغوسلافيا فترك عمله بالبنك وسافر فوجد أن (الطيور طارت بأرزاقها) فعاد مرة أخرى ليعمل في شركة (التابلاين) بطريف وبراتب (610) ريال ولاكتسابه مهارة في الإدارة والحسابات في البنك فقد عين في قسم المحاسبة، إذ هو السعودي الوحيد بين اللبنانيين والفلسطينيين، وكان تعامل الرؤساء الأمريكيين وبعدهم الهنود بتعال وبالذات على العمال السعوديين فعلا مات التفرقة العنصرية حسب الجنسية والدين واضحة، ويقول: إن تعاملهم مع اللبناني المسيحي ذو أهمية. وإن الوظائف العليا محصورة بهم يليهم اللبنانيون والهولنديون ليأتي السعودي بالمرتبة الدنيا رغم وجود من برز منهم: لافي نايف وحمود نزال، واللذان وصلا إلى مرتبة مساعد ناظر محطة وبراتب لا يتجاوز 2000ريال بينما راتب من يماثلهم بالوظيفة من الأمريكين يصل إلى 12 ضعفاً رغم عدم تأهليهم.
وتحدث عن بداية المقاول سليمان العليان وعن سائق (الكنورث) عبدالله الخضري الذي اختلف مع رئيسه الأمريكي فاستقال ليصبح من كبار المقاولين.
كان عمله متنقلاً بين محطات الضخ في المدن التي انشأتها التابلاين: طريف، عرعر، القيصومة، رفحاء وغيرها. وعند زواجه طلب الاستقرار في إحدى هذه البلدات، فرغم أنه أصبح مديراً للمحاسبة ورئيس مكتب محطة لم يتحقق له ذلك فقدم استقالته بعد ست سنوات عمل (61 – 1966) والذي يعترف أنه تعلم منها الكثير في أسس المحاسبة المالية ومبادئ الإدارة بالعمل والدراسة بما لا يقل عن 12 ساعة يومياً واعترف باستفادته من ثلاثة: موسى شكري صلبان الفلسطيني وغرم الله عبدالله الغامدي وعذيب مطلق الرويلي. وقد زاد راتبه من 610 ريالات إلى 1260 ريالاً.
يقول: إن عدد العمال السعوديين في التابلاين 800 موظف لم يصل منهم للوظائف العليا سوى ثلاثة. وبعد هزيمة 1967م توقف ضخ البترول إلى صيدا بلبنان فاغلقت الشركة أعمالها نهائيا، فنجده يتحسر على المنشآت والمعدات ومحطات الضخ والتوربينات الغازية ولماذا لم يتم تحويلها إلى إنتاج كهرباء وغيره؟ ولماذا لم يستفد من أربع محطات تتوفر فيها كل مقومات الحياة؟ ولماذا لم يستفد من المساكن والمباني التي أقامتها الشركة لعمالها؟سواء للمواطنين أو للنازحين العراقيين أثناء حرب الخليج الثانية؟
وكان من المفترض تحويل المستشفيات الأربع بكل معداتها وموجوداتها وكوادرها السعودية إلى وزارة الصحة.. وكذا المدارس.. ولكنها للأسف بيعت (خردة) إلى شركة يابانية جاءت ونقلت كل شيء إلى اليابان. وقال: «.. لماذا لم نتمكن من استغلال ا لموجودات الثابتة والبنية التحتية منذ عام 1967م وحتى الآن، بدلاً من بيعها إلى الشركة اليابانية في عام 2008 ونقل كل شيء إلى اليابان؟».
جاء للبحث عن عمل بالرياض فوجد إعلان لوظيفة (مساعد مدرس لغة انجليزية) بالمرتبة الخامسة بمعهد الإدارة وكان يشترط في المتقدم أن يكون جامعياً.. فحمله طموحه لمقابلة مدير المعهد ليقول: «لم أقابل من قبل قائداً وشخصية عامة محورية قبل ذلك مثل هذا القائد الأستاذ فهد الدغيثر في مكتبه الكبير، والذي لم أنتظر لمقابلته إلا دقائق معدودة، وهذا كان وما زال شيئاً نادراً، عندما دخلت مكتبه كان من دون غترة وعقال!! لاشك أنه أبهرني بلطفه وبأسئلته الذكية عن تمكني من اللغة الإنجليزية. أذهلني تواضعه وسرعته في اتخاذ القرار الذي قدمه باتصاله مع مدير عام الشؤون المالية والادارية آنذاك صالح العمير، الذي وجهني إلى مدير شؤون الموظفين آنذاك محمد الطويل، وفي اليوم نفسه توجهت لإجراء الفحص الطبي في مستشفى الشميسي.. » وقال: إنه لن ينسى مقابلته للدغيثر.. وأنه فوجئ بقدراته اللغوية فصدر قرار تعيينه في اليوم نفسه.. ولم يمكث بهذه الوظيفة سوى ثلاثة أشهر.. بعدها تم تعيينه أميناً عاماً لمكتبة المعهد حديثة العهد، ولمدة ثلاث سنوات متتالية ولم ينس من عمل معه على تأسيس وبناء وتكوين هذه المكتبة الرائعة هم: أحمد المعجل وعبدالله العوهلي ومصطفى السدحان وعبدالرحمن الجويرة.
ويعود مرة ومرات للتحدث عن رئيسه قائلاً: «من الضروري جداً أن أتحدث عن رئيسي في العمل. ألا وهو الأستاذ فهد الدغيثر، كان شاباً يافعاً ممتلئاً بالحيوية والنشاط. يحضر إلى العمل قبل أي موظف قبل السابعة صباحاً، ويدور يتفقد الجزء الرئيس بقاعات التدريب، ويزور الموظفين في مكاتبهم، ويكتب لكل موظف غير موجود ورقة صغيرة مليئة بالمعاني والتذكير وهي: صباح الخير ويذيلها باسمه. كان قائداً إدارياً بصرامته وصراحته وعطائه.. ».
لم أتمالك نفسي وأنا أقرأ هذا المقطع أو هذه الشهادة إلا أن أهاتف أبي طارق راوي هذه السيرة العطرة – إبراهيم المنيف – لأقول له كلمة واحدة (لقد أنصفت هذا الرجل). فتذكرت لقائي الوحيد به – الدغيثر – عند عيادته للمرحوم فهد العريفي في منزله قبيل وفاته، وكنت أجلس إلى جواره فتكلم بهمس شاكراً لي ما كتبته عن عبدالرحمن منيف في كتابي المتواضع (ترحال الطائر النبيل) فطلبت منه بل ورجوته أن يزور مكتبة الملك فهد الوطنية للتسجيل معه ضمن برنامج (التاريخ الشفهي للمملكة) وكان يرهف السمع العريفي فشارك بالتأكيد على قبوله الدعوة التي لم يرفضها ولكنه طلب التأجيل.. فهاتفته بعد شهرين – فوجدته ببيروت - معزياً بأبي عبدالعزيز ومؤكداً دعوته.. ولكنه غير الحديث وذكر أنه يقرأ باعجاب كتابي الثاني (الفكر والرقيب).
كتاب سيرة إبراهيم المنيف لا يمكن استعراضها بمقال أو بحث .. لم أستطع ترك كلمة منه فكله يستحق القراءة بتمعن يذكرني بكتاب غازي القصيبي (حياة في الإدارة). لقد مر المنيف بمحطات مهمة فمن معهد الإدارة ابتعث للدراسات العليا بامريكا ثم عاد للعمل قائداً في صندوق التنمية العقاري وقبلها الشركة العقارية وقبلها تنظيم إنشاء جهاز (الرئاسة العامة لشؤون الحرمين) و(رئاسة تعليم البنات) وغيرها. ولا ننسى قيادته لفريق دمج محطات الكهرباء الـ 44 شركة في شركة كهرباء واحدة. كل هذا يستحق وقفات ودراسة متأنيه تحية اعجاب وتقدير وشكر للدكتور إبراهيم المنيف على هذا العمل الرائع.
Abo-yarob.kashami@hotmail.comالرياض