ليس يأتي ذكر العربية وحالها اليوم إلا انقسم الناس في أمرها، فمنهم من يشفق عليها كل الإشفاق، ويراها محيّدة مبعدة عن ميادينها الفعّالة؛ إذ هي ليست لغة العمل ولا التعامل التجاريّ، وهي ليست لغة العلم في بعض معاهد التعليم، ويراها تعاني تحت وطأة خليط من العاميّات التي غلبت على وسائل الإعلام، وتحت وطأة ألفاظ أعجمية تكاثرت فمسخت وجهها المشرق، ولولا ما تسمعه من تلاوة القرآن الكريم لفاتك سماع جرسها الجميل، ولاستيأست من بقائها، وهذا الوحي المنزّل هو ما جعل الفريق الآخر لا يخالجه خوف على بقاء العربية ولا ينتابه إشفاق من فشلها وذهاب ريحها، فهو مطمئن كل الاطمئنان إلى حياتها وبقائها كما بقيت طوال القرون الماضية، بل إنه لينكر على الفريق الأول تباكيه على العربية وخشيته التي لا مسوغ لها، وهو آخر الأمر يرى العربية في انتشار وازدهار، وأهم من ذلك أنه يستدل على ضمان حفظها وبقائها بقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر-9)، ولكن هذه الآية الكريمة لها تفسيرها الذي لا يفهم منه ما يفهمون، وليس يسوغ أن تُحمّل ما لا تحتمله من المعاني التي يريدونها، فالآية كما وردت في التفاسير متصلة بنزول الوحي والحفظ للوحي لا للغة نفسها، جاء في تفسير (تنوير المقباس 1: 216) المنسوب لابن عباس: « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكر جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ وَإِنَّا لَهُ لِلْقُرْآنِ لَحَافِظُونَ من الشَّيَاطِين حَتَّى لَا يزِيدُوا فِيهِ وَلَا ينقصوا مِنْهُ وَلَا يُغيرُوا حكمه وَيُقَال إِنَّا لَهُ لمحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحافظون من الْكفَّار وَالشَّيَاطِين». فالحفظ إما للوحي أو للرسول، وجاء في تفسير (القرطبي، 10: 5) «قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا»، فالحفظ إذن للقرآن أثناء نزوله من تدخل الشياطين التي دأبت تتسمع للملأ الأعلى وتزيد في ما تسمع؛ ولكن الشهب كانت تحرقهم، قال تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لهُ شِهَابًا رَّصَدًا (الجن-9). وقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ{6} وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ{7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ{8} دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ{9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ{10 . (الصافات)، وربما كانت الخطفة سببًا في التزيد، قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( الحج-52). ومن جملة هذه الآيات نعلم أنّ الحفظ للوحي، أما حفظ اللغة فهو فعل بشريّ؛ فلذا تموت لغاتٌ، وتحيا لغات، وتنشر أخرى.