اشتهرت بدايات الصحوة الدينية بالاختلاف الذي قد يصل إلى العداء داخل الأسرة الواحدة، وكان ذلك عادة ما يبدأ باعتراض أحد الأبناء على وجود التلفزيون أوالصور أوالأغاني داخل المنزل، لكن بعد الثورات العربية أصبح الاختلاف سياسياً، وأصبحت الساحات الكبرى تحكي يومياً قصة ذلك الخلاف بين التيارات الصحوية الدينية والتيارات المدنية باختلاف مشاربها، والمسألة برمتها تتعلق بالاختلاف حول فلسفة الحياة، وحول حرفية تطبيق التفسيرات الدينية المعاصرة على الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد تطول الأزمة، وقد تصل إلى مراحل أكثر تعقيداً في المستقبل.
بدأت القصة منذ عقود بظهور مدارس دينية تقدم ظاهرة جديدة للتدين، ويعد الشيخ حسن البنا أهم شخصية اجتماعية دينية في هذا العصر، بل يكاد يكون صاحب الدور الأهم في تقديم ظاهرة التدين المعاصرة، كأسلوب حياة متكامل، على أن يلتزم الإنسان المسلم بأخلاق الدين كما يفهمها الوعاظ والمصلحون من القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن يعمل المؤمن لتحقيق الحياة الراشدة على أرض الواقع، في حين كانت ظاهرة التدين الشمولي قبل ذلك خاصة بعلماء ورجال الدين.
تعتمد ظاهرة التدين المعاصرة على إعلان حالة التطهر الداخلي والظاهري من المعاصي والآثام، وتقدم نفسها كتيار نقي وصالح ومتطهركبديل لمجتمع الفساد والعصاة، ويحرص أتباعها على الانتظام في أداء العبادات وإحياء السنن في المظهر والسلوك العام، وإعلان حالة الكراهية للمخالفين لهذا النهج، وكان لذلك الحراك تأثيرات غير عادية على الاقتصاد والإعلام، وقد وصل الحال إلى أن يكون هناك إعلام إسلامي وغير إسلامي، واقتصاد إسلامي وغير إسلامي، وأدب إسلامي وغير إسلامي، وزي إسلامي وغير إسلامي.
من أهدافها المعلنة نشرظاهرة الالتزام، ومحاربة ظواهر الفساد السياسية والمالية والأخلاقية، والتي يعزوها التيار المتزمت إلى البعد عن الدين، وأن الدين الحنيف جاء بمختلف الحلول لكل المشكلات في الماضي والحاضر، وأن يتميز المسلم المتطهر بزيه وسلوكه عن المسلمين العصاة، وهم الذين من كان عنده أصل الإيمان، ويشهدون الشهادتين، لكنهم لا يقومون بحقوق الشهادة فيخالفون في بعض الأوامر الشرعية، ويرتكبون بعض ما نهى عنه، كانت رؤيتها تقوم على أن الإنسان المتدين لا يمكن أن يكون منتجاً للفساد، بينما قد يقدم العاصي على إفساد المجتمع، ومن هذه الرؤية انطلق الموقف الرافض للمخالفين لنهجهم، ولتفاسير الدين التي لا تقدم وصفة موحدة للإنسان المسلم، ولاتفرق بين الناس على ظواهر إيمانية وشكلية، وتقاوم اختطاف الدين من قبل فئة محددة.
في الربيع العربي، وصلت حالة التطهر أو التدين المعاصر إلى حاجز السياسة، فكان هناك حزب إسلامي الذي يقوده المؤمنون والمتدينون، وظهر في الاتجاه المعاكس الحزب غير الإسلامي الذي يتجمع فيه المخالفون لهم فكرياً ودينياً أو العصاة والفساق حسب تفسيرات التيار المتطهر، ويبدو أن لحظة الاصطدام قد اقتربت بين المتطهرين والعصاة في زمن الثورات العربية، في ساحات مصر، حيث انطلقت حركة التطهر الأشهر ممثلة في الإخوان، وحيث نهضت الثقافة العربية المعاصرة، والتي تستمد أفكارها من العصور الذهبية في الحضارة الإسلامية، ومن آخر ما توصل إليه الفكر الإنساني.
في المعارك المفصلية في التاريخ لا بد من خاسر ومهزوم، ما لم يتفق الجميع على رؤية مشتركة تجعل من المتطهرين والخطائين أسوة تحت مظلة القانون، على أن تخرج ظاهرة التزكية الدينية من الصراع السياسي، وأن يتم تأجيل الكلمة الفصل في مسائل الإيمان والإحسان إلى يوم الحساب.