ذات زمن قريب وأثناء جولاتي القرائية وقعت عيناي على مقال جميل لكاتب إنجليزي تحت عنوان (الحيرة).. للأسف لا يحضرني اسم الكاتب الآن لكنني أتذكر الفكرة المطروحة جيداً.
يقول الكاتب بأنه كان للحيرة دور كبير في حياته منذ طفولته، بل قبل أن يعي كثيراً مما يحدث حوله.
ولهذه الحيرة أسباب -كما يقول- فهو وحيد والديه ولأجل ذلك فقد كانا يغمرانه حباً واهتماماً ورعاية لكن بصورة مبالغ بها إلى الدرجة التي لايمنحانه فيها فرصة لاتخاذ قرار بنفسه ابتداء من أبسط الأمور إلى أكبرها. فهما يقومان بالنيابة عنه باختيار نوعية ملابسه، أشكالها وألوانها، وأيضاً بالنسبة لطعامه. نشأ على ذلك فترة طويلة حتى أصبح لايستطيع اتخاذ قرار بنفسه لكنه ينتظر قراراً من أحدهما أو كليهما، امتد هذا الأمر إلى مرحلة شبابه، وقد بلغ مرحلة من النضج إلا أن تلك الحيرة المستبدة لاتزال آثارها باقية في أعماقه، إذ يجد نفسه غارقاً في الحيرة عندما يكون مجبراً على اتخاذ قرار بالاختيار بين أمرين بسبب هذا الأسلوب في التربية.
لكن رغم ذلك أجدني -والحديث للكاتب- مديناً لمشاعر الحيرة بالكثير فأنا أعتقد جازماً بأنها واحدة من أهم الأسباب التي دفعتني للكتابة، فلولا الحيرة لما كتبت كثيراً من القصص والمقالات.
وبصرف النظر فيما إذا كان للحيرة تأثير إيجابي على حياة الكاتب أم لا؟! إلا أنني أرى أن الكاتب قد كان يوماً ضحية لأسلوب تربية خاطئ، هذا النموذج التربوي لايمثل أسلوب التربية الإنجليزي، على العكس تماماً إذ يغلب على تربية غير العرب لأبنائهم تدريبهم على الثقة بأنفسهم منذ خطواتهم الأولى على الأرض، فعلى سبيل المثال من المألوف جداً أن ترى طفلاً في الخامسة من عمره يحمل كيساً صغيراً في يده يتضمن أغراضه الخاصة أثناء تجواله مع ذويه للتسوق أو لأي أمر آخر من هذا القبيل. ذلك التدريب على اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته نجده أيضاً ركناً أساسياً في مناهجهم الدراسية.
أما نحن فيحدث لدينا العكس غالباً، فليس لدى الكثير منا وعي بأهمية غرس الثقة في نفس الطفل ولا في تعويده على تحمل المسؤولية، عدم الوعي هذا يشمل أيضاً أسلوب التربية والتعليم السائد في معظم مدارسنا سواء في خلو المناهج ذاتها أو في الأسلوب التربوي المتبع من قبل المدرسين والمدرسات، وهذا هو السر الذي يجعل البعض من الشباب الصغار من الأجيال الجديدة غير قادرين على اتخاذ قرار ما مهما بلغت بساطته.
بقايا كلمات:
ليس بالضرورة أن تكون عاشقاً كي تكون حائراً، الحيرة منطقة وسطى مابين عتمة الشك ونور اليقين.
(ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما)..
الشافعي