أولئك الدعاة والمشايخ وطلبة العلم الشرعي الذين أداروا ظهورهم لبلدهم وأهلهم وأتباعهم المخلصين في السعودية، ما الذي يبحثون عنه عندما استقبلوا مصر واستدبروا وطنهم؟ هل يبحثون هناك عن فضاء دعوي أكثر تقبلاً لهم من بلادهم الأصلية؟ هل ينطلقون من سعة آفاق شرعية وعقائدية أكثر منها سياسية، أم يبحثون عن أمجاد شخصية يظنون المجتمع السعودي أصغر حجماً وأقل وزناً من أن يوفره لعبقرياتهم وطموحاتهم ونفسياتهم المتضخمة؟
إذا كان ذلك صحيحاً وفي المسألة سعة آفاق شرعية عقائدية، لماذا إذاً عنونوا منشورهم السياسي ضد بلدهم باسم المثقفين السعوديين، وليس باسم صادق يعبِّر عن انتماء شرعي عقائدي بحت؟ هم يعرفون أنهم غير محسوبين محلياً على فئات المثقفين، فهؤلاء جلهم أصحاب مشروع تنويري وطني تآلفي، يحبون الفنون والآداب والفلسفة النقدية والتحليل العلمي لمشاكل المجتمع. أما هم فعلى النقيض من كل ذلك، لديهم مشروع طوباوي مذهبي انتقائي، ولا يمتون للثقافة التنويرية بأية صلة، أما الأوطان فهي في أدبياتهم مجرد أوثان.
إنها السياسة التي جعلتهم يلبسون لهذه المرحلة المضطربة لباس الثقافة، تهرباً من المواجهة مع المخزون الشرعي الوطني، ومحاولة إيحاء بأن فكرهم صالح لكل المهتمين بالشأن العام، بغض النظر عن بضاعتهم المذهبية والطائفية، وهذه سياسة ميكيافيلية ليس لها من المصداقية نصيب.
ما زلنا هنا نصدِّق ما يقال لنا بأن السياسة لا يمكن ولا يجوز فصلها عن الدين، وكأنهما توأمان ملتصقان بقلب واحد لا يعيش أحدهما بدون الآخر. عندما كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان على فراش المرض جمع أعيان الدولة من مشايخ وأئمة وولاة أقاليم وطلب من أحدهم أن يتكلم فنهض هذا والسيف في يده وقال: خليفتنا هذا (وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فله هذا، وأشار إلى السيف بيده. تلك كانت جملة دخلت التاريخ، أما تفكيكها إلى مجموعة حقائق فهو التاريخ البشري بعينه، أي السياسة على أرض الواقع المعاش وقد انفصلت عن الدين منذ صدر الإسلام.
جميع تلك الحروب التي اشتعلت في صدر الإسلام الأول كانت حروباً سياسية لا يقبلها الدين، وكلها حملت رايات دينية. احتال المؤرِّخون في العالم الإسلامي وما زالوا يحتالون، فسموها حروب الفتن الكبرى والصغرى، بمعنى أن المسلمين الأوائل حينما رفعوا السيوف على بعضهم كانوا مفتونين في دينهم، والحقيقة أنهم كانوا مفتونين بالسياسة وكلهم مسلمون. الدين الحق كما هو معروف بالضرورة تنزيلاً وسنة صحيحة، لا يجيز الاقتتال بين المسلمين، لكن السياسة تحتال على الدين بتحوير النصوص حسب الظرف التاريخي والأطماع البشرية، وليس ذلك من الدين الإسلامي الصحيح في شيء.
ما زلنا نعاني من نفس الخلط بين الديني والسياسي، فلا يستقر لنا في العالم الإسلامي حال حتى ننتقل من حرب إلى أخرى تحت رايات دينية لأهداف سياسية.
نعم، هناك لقاء مصالح مرحلية بين الدين والسياسة عندما تقوم على ذلك المصالح المعيشية العليا للناس، وذلك مقبول وشرعي. أما الافتراق بينهما باسم الدين كغطاء لأجندات خارج الوطن، فذلك كفر صريح وسياسة نفعية وخيانة وطنية.
أحب أن أذكر الشرعيين الباحثين عن توسيع أمجادهم الشخصية في الخارج، بأن زعماءهم وقدواتهم وقادتهم هناك يتلاعبون بهم باسم الدين لمنافع دنيوية سياسية، وإليهم بعض الأمثلة:
تركيا الدولة الإسلامية السنية الكبيرة، بقيادة حزب العدالة والتنمية، حزب رجب أردوغان وعبدالله غول وداود أوغلو، تركيا هذه علمانية لها مشاركة ميدانية خدماتية في أفغانستان مع التحالف الأمريكي الغربي ضد طالبان الإسلامية. كل وعودها الإسلامية للثوار السوريين تبخرت وتحولت إلى استغلال بعض الفصائل الكردية والسنية لتوسيع نفوذها في سوريا في فترة ما بعد بشار الأسد. هديرها وزمجرتها الإعلامية ضد إسرائيل إثر الهجوم على سفينة إمرلي وهي في طريقها إلى غزة، تحولت إلى مصالحة ودية وقبول ديات عن القتلى الأتراك من الطرف الإسرائيلي وعادت الأمور سمنا على عسل.
قيادة الجماعة الإخوانية في مصر من نفس الطينة والعجينة. حزب الحرية والعدالة الإخواني المصري له علاقات واضحة ومعروفة مع إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي وإيران، يحرص عليها أكثر من حرصه على المصالح المشتركة وحسن الجوار مع الدول العربية، الخليجية منها على وجه الخصوص. عندما قال عصام العريان لأهل الخليج لكم الخيار إما أن تصبحوا عبيداً للفرس أو تنظّموا إلينا، كان يعبّر بوقاحة عن غرور واستعلاء على أهل الخليج وعلى أغلب مكونات الشعب المصري التي لا يؤيِّد جماعته منها سوى عشرين بالمائة.
كل مواطن سعودي مستنير ومهتم بالشأن الاجتماعي الوطني وبمستقبل أبنائه له ملاحظات ومآخذ على دولته وحكومته في مجالات كثيرة وهامة، لكنه يلتزم بمصلحة الوطن، ولذلك يوجه بوصلة مساهماته وآماله نحو المستقبل التضامني التكافلي لجميع الأطياف والمكونات الوطنية. أما من يديرون ظهورهم لأوطانهم ويحاولون ابتزاز مستقبلها بنقائص حاضرها فليس قليلاً في حقهم أن يتهموا بالتنكر للوطن والأهل والولد. القائد الإنجليزي أثناء احتلال إيرلندا رمى للعميل الإيرلندي الخائن صرة النقود على الأرض ورفض مصافحته قائلاً: إن يدي لا تستطيع مصافحة خائن لوطنه.
الرياض