التحدي الذي تواجهه حياتنا الاجتماعية وموروثنا المعنوي هو غياب الإمداد اللغوي والمعنوي، وتناقص العنصر الإنساني في العلاقة بين الناس ومنطلقاتهم القيمية، وتجاربهم الحياتية.. فالانقطاع هنا قد لا يكون ملموساً على مستوى المشاهدة الواضحة، إنما يأتي متدرجاً وخفياً، وربما أهمها وأخطرها هو توقف أو انقطاع الأمثال الشعبية التي قد تدوزن وتصاغ بطريقة شعرية محببة، أو سجع جميل، أو كلام مقتضب ملحون، يشير إلى المواقف والطرائف بشكل يحفظ عنصرها الجمالي الفريد.
فتوقف صياغة أو نحت الأمثال الشعبية في البلاد العربية ربما جاء مع توقف أو ضمور حالة الشعر والبلاغة، وعلم اللغة، وربما كان للعامية أيضاً أثر في بناء هذه المنظومات اللفظية حينما ظلت الكثير من اللهجات تتقارب مع الفصحى، إلا أنه في هذه الأيام باتت العامية لغة دارجة وذات نزعة استهلاكية، كما أنها لا تتعمق في مضامين الحياة إلا بحدود ما تطلبه من حياة مادية صرفة؛ إذ تأثرت الذائقة بالكثير من الصور الآنية حتى صار المشهد الإعلاني القصير هو الحالة الطريفة في مشاهدات اليوم وتأملاته.
فالأمثال الشعبية تراجعت - بكل تأكيد ـ عن مكانتها، وتخلت عن دورها في بناء اللغة وفنياتها والاستخدام الجميل والمبتكر لها، حتى أن اللغة أصبحت غير قادرة على تقديم الأمثال؛ لأن هناك بعض التداخل في البناء، والتوافق الضمني بين الناس وذائقتهم على لغة تسمى (اللغة البيضاء) أو الهجين التي تتكون وتنشأ عادة في العواصم والمدن الكبرى، لتتخلى اللغة الأم عن قيمها ودورها، وهذا هو مبعث القلق لدى الباحثين في علم الأنثروبولوجيا المكرس لخدمة ودراسة القيم والحضارة والمفاهيم الإنسانية والسلوك البشري والتحولات النوعية في بناء الخطاب الاجتماعي والعادات الدارجة منذ زمن بعيد.
فالأنثروبولوجيون أو علماء الحياة الإنسانية لا يزالون يشيرون بوضوح إلى أن هناك تغييراً حتمياً في الحياة الاجتماعية. وهذا الأمر سيترتب عليه تحولات نوعية في السلوك الفردي والرؤية الجمعية، بل إن هذا التحول النوعي سيطول التراث الإنساني، وقد يسعى إلى غربلته أو تجاهل الكثير منه.
وربما أهمها هو التحول عن تعاطي الأمثال، وربما عدم تداولها، أو بناء مفردات جديدة تتواكب مع روح العصر وضروراته، فالأمثال هنا عرضة - بلا شك - لمثل هذا التحول، لكن السؤال الأهم هو: أين البديل المعنوي المناسب الذي قد يحفظ لنا المعادلة الإنسانية ولغتها وكيانها الجمالي وملامحها الجمالية؟
بعض الدول التفتت إلى هذا الأمر، وباتت تسمي المعطى التراثي والمنجز الشفاهي التاريخي بـ»الثقافة المعنوية»؛ إذ إن هذا المفهوم بات هو الأقرب للسعي إلى صياغة التراث وتوثيقه وحفظه، ومن ضمنه الأمثال الشعبية التي تحتاج منا إلى عناية أكبر لتكون ذخيرة للأجيال القادمة.
hrbda2000@hotmail.com