* شذرات من مذكرات زعيم المناضلين في العصر الحديث (مانديلا) تستوقفك وهو يتحدث عن تجربته العريقة في النضال القومي والوطني، تلك التجارب التي لا يختلف اثنان على خروجه منها بنجاح رغم العقبات والمشكلات والصعاب التي واجهها.
وهي بلا شك تكشف قدرة الفرد الواحد على التغيير متى اشتدت عزيمته، وسلمت أهدافه ومقاصده ونواياه. والإرادة الصلبة تقتحم الحواجز، وتنصهر أمامها القضبان الحديدية.
* الزعيم الأفريقي أوجز رأيه في حركات التمرد والتحرير، والانعتاق من الأنظمة الاستبدادية، والسبيل الأمثل لتطبيق مبادئ الديمقراطية. التفاتات عميقة تستطيع من خلالها أن تكتشف أسباب إخفاق ما يسمى بتنظيم (الإخوان) في العصر الحديث، أو لنقل بعبارة دقيقة تعثر مشروعهم السياسي.
* لقد أشار (مانديلا) إلى أن من عوامل فشل بعض الزعامات التي يكتب لها قيادة المراحل الانتقالية في حياة الشعوب لأي بلد، أو مجتمع كبر، أو صغر هو تجاهل صناعة المستقبل، واستشرافه، وجذب المجتمع إلى التفكير في المشاركة الفاعلة في البناء، حيث يضيع الواقع والمستقبل أمام الالتفات إلى الماضي، واستدعاء رموزه، والتشفي من خلال ذكر عثراته ونكباته وانتكاساته، والسعي الحثيث لتأليب الآخرين على محاكمة عناصره. وقد أثبتت الدراسات النفسية والتجارب الاجتماعية أن الإنسان لا يلوذ إلى الماضي بشكل عام ويجتره في حديثه إلا حينما يشعر أن العصر تجاوزه، أو أن المستقبل بكل آماله وطموحاته ليس في متناول قواه ومدركاته. هنا يجد الإنسان المكلوم المهزوم من الماضي متعة وسلوانا من هموم تحاصره، أو أشواك تعترض طريقه.
* مثل ذلك التفكير السلبي يأخذ جل وقت بعض الزعامات من ذوي الخبرة البسيطة في الحياة، وفي طريقة سياسة الشعوب، فدهماء الناس ينصرفون كل الانصراف عن النظر إلى الواقع، ودراسة مشكلاته، وتختلط عليهم من حيث لا يشعرون معالم المستقبل تحت ضغط الخطابات، ذات الطابع الانتقامي.
* العالم العربي عاش ويعيش حالياً مع نماذج قيادات جديدة، مراهقة مجازفة، كتب لها أن تعتلي سدة الحكم، ولم تستقرئ بعمق ووعي تاريخ الثورات والانقلابات والصراعات التي عاشها العالم قديماً وحديثاً، أو ربما أنها قرأت وأخطأت في استقرائها، والإنسان دائما أمام نشوة الانتصار يستعجل النتائج، أو تتغير حساباته، وربما زين له سوء عمله فرآه حسنا.
* أعود فأقول: إن هاجس المحاكمات، وتجريم الأنظمة البائدة، وإنكار المنجزات إن لم يكن اجترارها عن جهل فربما يكون من طبائع الإنسان، أيّاُ كانت انتماءاته وأعراقه وأيدلوجياته.
* الشيء الذي ينبغي أن نستدركه في هذا المقال أن هذا السلوك المشين، أو الانتقامي، والذي استحضره (الزعيم الأفريقي)، وهو يشارك في بناء مجتمعه ودولته بعد أن تحرر من ربق العنصريات. أننا لا نعد هذا السلوك، أو تلك النزاعات إرثاً ثقافياً وتاريخياً لنا كمسلمين، فتاريخنا العربي الإسلامي حفل بنماذج ضربت أروع الأمثلة، في الصفح، والعفو، والتسامح، وإقالة العثرات. ولنا في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) أجمل السير وأزكاها وأنبلها، رغم ما لاقاه من عنت ومشقة، وتحالف وتكاتف من القوى المناوئة له من الأقارب والأباعد. وكانت تلك المواقف دروسا وعبرا استلهمها الخلفاء والقادة والمصلحون، في ظروف وأحداث مشابهة لما يدور في عصرنا الحاضر، والتاريخ يعيد نفسه، تستشعر ذلك فئة، ويغيب عن فئات أخرى.
* في اعتقادي أن أي زعيم، أو قائد ذي نظرة ثاقبة في مثل هذه الظروف الراهنة في الأقطار التي مرّت بحركات التغيير من الأجدر به أن يترك في خطاباته إرث الماضي ورموزه ومصيرهم للأجهزة العدلية والقضائية، يعرض عن ذلك كله ويشد المجتمع إلى ما هو أهم، إلى المستقبل، إلى معركة إثبات الوجود، إلى التنافس الشريف المحمود مع المجتمعات والحضارات الأخرى.
* بقي أن أستدرك وأشير إلى أن مثل هذا النهج المفترض لا يمكن حصره في تجارب السياسيين، بل إن تلك الرؤى يمكن أن تسحب على التجارب في ميادين الإدارات، والمؤسسات والأجهزة التنفيذية، وما قد يطرأ عليها من تغييرات جوهرية أحياناً في قياداتها، فالنماذج الكبيرة في فن القيادة تصنع، أو تؤهل القيادات التنفيذية، وتكون شريكاً في البناء ومرحلة التغيير، بعيداً عن أجواء الجدل العقيم، والخصومات التي لا طائل من ورائها.
dr_alawees@hotmail.com