(1)
- سألني سائل: ما الذي لم تبحْ به في سحائب ذكرياتك التي أخرجتها في كتابين، وتود أن تميط اللثام عنها الآن، فقلت: إن هناك أموراً كثيرة لم تبحْ بها سَحائبُ ذكرياتي، أحْجمتُ عن ذكرها آنئذٍ، إمّا احتراماً لخصُوصيتها، أو لافتقارها إلى مضمون معرفي أو ثقافي أو تاريخي يمكن أن يُضيفَ إلى ثقافة القارئ الكريم شيئاً يذكر.
***
- ولقد كنت متردداً جداً من حيث المبدأ، عبر عقديْن من الزمن، في تدوين مذكراتي بين الإقدام على ذلك أو الإحجام عنه، ينازعني في ذلك أمران:
أ) كنت أخشى أن أغرق ذهن القارئ ووجدانه في سرد تفصيلي قد لا تكون له قيمةٌ ولا معنىً ذو بال.
ب) تجنب إحراج بعض مَنْ عاصر مواقف التجربة، بحُجة أنني (أزحت الستار) عن شيء مما يمكن تسميته بـ(المسكوت عنه) من الأحاديث!
***
- ولا أنكر أو استنكر استقبالي بعضَ الانتقادات (الودية) في هذا الصوب، فكان ردّي أنني لم (أشهّر) بأحد أو أتحدث عنه بما يسوءُه. أذكر أن أحدُهم من ذوي القربى، عاتبَني عتاباً خاصاً ورقيقاً لأنني أوردت ذكر (الكفّ) الساخن من الخال سعد رحمه الله، لحظة وصولي إلى الطائف أولَ مرةٍ وأنا ابنُ التاسعة تقريباً، قادماً من منطقة عسير، بعد أن (راعني) مشْهدُ الدراجة العسكرية النارية تذرع ساحة (برحة القزاز)، جيئةً وذهاباً، فأردت، بعفوية الطفولة وسذاجتها أن (أُشركَ) خالي في متعة المشاهدة لذلك الموقف (الدرامي) الاستثنائي، بالنسبة لي على الأقل، فدعوتُه كي يشاطرني متعة (تأمل) ذلك المشهد الطريف، ولم يدرْ بخلدي لحظتئذ أنني ارتكبت محظوراً من وجهة نظر الخال -رحمه الله-، إذْ كان كل انتباهه منصرفاً إلى (ضيفه) الجندي (ذي الأغلال)، ولذا، كان الردُّ (كفاً) صاعقاً أخرس فضولي وألجم لساني!
***
- بقي شيء في الخاطر من تلك التجربة، بكل ما تخلّلها من وعثاء الألم، وسطوة الحرمان، ومشاعر المعاناة، هو أنني مدينٌ إلى النخاع، بعدُ الله، لكل مدخلاتها ومخرجاتها، بدْءاً من سقيي الزرَعِ في مشيّع ورعيِ الغنم في تلالها، مروراً بالترحال غير المستقر بين عدد من مدن المملكة وانتهاءً بالرياض ثم أمريكا، والعيش سبعَ سنواتٍ في لوس انجلوس المذهلة، حتى تكللت المهمة بالنجاح.
***
- وأبرر هذا البوحَ بالقول، أنّ حصاد تلك التجربة بكل أطيافها أسْهم بقدر كبير في (تشكيل) شخصيتي على النحو الذي انتهيتُ إليه اليوم، وأحمد الله أنني لم أُولدْ في هذا الزمن المتْرع بخيارات العيش المترف، إذن لربما كنت عبئاً على نفسي قبل أبَويّ، كنت في مراحل متفرقة من تجربة الطفولة أعيش بصمت داخل أروقة نفسي تجربةَ (رجل) يحاول أن (يعرف) ما يريد، ويتخذ في سبيل ذلك (قراراتٍ) كان بعضها مفصلياً، من حيث لم أعِ ولم أقدّر، لكنها فتحت لي آفاقاً أخرجتني من (زنزانة) (الوصفات) القبلية داخل قريتي الريفية مشيّعا!
***
(2)
- حّرض الفضولُ صديقاً زارني في مكتبي وقد كست عينيه سحابة من دمع وهو يختلس النظر إلى صورة سيدتي الوالدة بالقرب مني، فسألني عن سبب (مرافقة) طيف (سيدة الحبايب) طيب الله ثراها لي أينما كنت، فقلت:(إنني أفخر بـ(رفقة) تلك المرأة الجليلة ولو من وراء (أسوار) صورة، وهي التي أكسبت حياتي وهجاً وجدانياً لا يغيب عن فطنة من عرفني وتعامل معي.
***
- أما عن سر وجود صورة والدتي في مكتبي تحديداً، فلذلك أكثر من تأويل وأكثر من سبب:
- فهي نبع حنان لي لا ينضُب، في حياتها وبعد رحليها إلى ملكوت الفردوس بإذن الله، واستمد من حضورها الرمزي ـ بعد الله ـ قوةً وإلهاماً!
- وهي (مدرسة) اقتدي بالكثير مما كانت تقوله وتفعله، وتأمر به وتنهى عنه، وتهمس به وتعلنه!
- وهي التي علمتني حبّ البشر، بما لا يتعارض مع حبّ الخالق، وكرامة المخلوق!
- وهي التي كانت تدعو لي دعاءً مستجاباً بإذن الله بكل ما يسرّ المؤمن ويسعده.. حتى لحظة وفاتها قبل نحو عقد من الزمان!
***
- باختصار، كانت والدتي رحمها الله وأرضاها، في حياتها، روضة تفوح إيماناً وحباً وعزماً يبزُّ عزم بعضنا نحن معشر الرجال، والذين عرفوها وتعاملوا معها عن كثب، يشهدون لهذا القول ويشفعون له!
***
- وقد ورثت عنها نزعةَ التمرد على الموقف الصعب، ثم لا يخمد هديرُه في خاطري حتى أنجزَه، ولا أزعم هنا أنني أحقّق الغلبةَ على كل موقف صعب ضمن مشوار عمري الطويل، لكن خيار (المواجهة) مع الموقف يظل ملازماً لي، فإما كان لي ما أردتُ منه فيما بعد أو انصرفْتُ عنه إلى خيار آخر يحقّق لي ما أريد!