حوار العدالة الذي باشره وزير العدل الدكتور محمد العيسى مع قادة العدالة والحقوق والرأي في الاتحاد الأوروبي وكنت شاهداً على تفاصيله، كان فرصة حقيقية لي بأن أدرك حجم الانطباع السلبي الذي يحمله صنَّاع الرأي وقادة العدالة والحقوق في أحد أهم مراكز القرار العالمي حول ديننا وعدالة بلادنا.. كانت كل إجابة تستحث أكثر من سؤال، وبعد نهار طويل من النقاشات استبشرت حين قال المشاركون بأن ما سمعوه مناقض تماماً لما يتداول عن العدالة والحقوق في المملكة!.. وأن جرأة الأسئلة تلاشت أمام جرأة الأجوبة واستنطاقها للمزيد من التساؤلات..، تذكرت مع تلك الدهشة الأوروبية ما طرحه الشيخ أحمد الزرقا في كتابه المدخل الفقهي العام حين ذكر في مقدمته ردة فعل وانبهار بعض الحقوقيين الغربيين في أحد المؤتمرات الفقهية في فرنسا حين قال عميد حقوقي: إما أن طرحكم غير صحيح أو أن ما نسمعه عن فقهكم غير صحيح!
أحد المشاركين الأوروبيين قال لي في البرلمان الأوروبي بعد انتهاء اللقاء مع أعضاء لجنة العلاقات الدولية إن الحاضرين من الأعضاء قد تقاسموا حزمة ثقيلة من الأسئلة العدلية والحقوقية التي تثار كثيراً بين النخب في أوروبا ولا تجد لها مجيباً.. سألته عن تأثير التراكم السلبي الذي يمارسه الإعلام في الغرب ضد قضايا الإسلام والمسلمين فقال بوضوح: لن يدافع عنكم سوى أنفسكم ومفكريكم بمثل وضوح الرؤية والمنطق الذي أوضحه الوزير في حواره اليوم.. كان الوزير يؤكد للمشاركين في الحوار والنقاش أن المملكة كتاب مفتوح يمكن لأي شخص أن يقرأه فما نقوله هو ما نعمل به.. لم يكن الحوار يقتصر على الاستناد إلى الخلفية الشرعية التأصيلية، بل كانت تتجلَّى فيه سعة الاطلاع على القانون ومبادئه العامة وتطبيقات الدول الأوروبية له.
كنت أستشعر دائماً بأن أزمة الحوار الإسلامي الغربي تتمثَّل في غياب المحاورين القادرين على الوعي بثقافة الطرف المحاور وعدم القدرة على تحديد المشتركات وتوسيع دائرتها، وقد أثلج صدري رغم صعوبة الأسئلة وسخونة قضايا الحوار أن الدكتور محمد العيسى كان مدركاً لطبيعة العقل الغربي وثقافته في الحوار فكان يتجاوز بعض نقاط الجدل إلى الاستناد إلى نداء الفطرة الإنسانية الإيمانية لينقل الحوار من أرضية التخندق في المرجعيات إلى أفق القيم المتأصِّلة في النفس البشرية كالعدالة والحق (القانون الطبيعي)، وحين تبتسم الوجوه وتطمئن رغم سخونة الحوار ووصوله إلى نقاط خلافية أدرك أن لغة العقل تزيل الاحتقان وتفتح القلوب وقد أعجبني تعليق أحد الحقوقيين المشاركين في الحوار حين قال: «أحترم اعتزاز الوزير بخصوصيته التشريعية ومنطقية إقناعه لنا بفلسفتها وأؤكد بعد هذا الحوار والنقاش المستفيض أنه تشريع يستحق الدراسة والمراجعة!»
قال ذلك بعد أن استمع إلى الدكتور العيسى يتحدث بوضوح حول مرونة النص الإسلامي وأثرها في دعم الإبداع القضائي في الاجتهاد وتفسير النصوص وتكوين المبدأ والسوابق، قال للمحاورين : إن النص الإسلامي نص إلهي مستقر في عقيدة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وهذا النص لا يمكن تعديله أو تحديثه ولذلك كانت حكمة الخالق عزَّ وجلَّ أن يشتمل هذا النص على إعجاز تشريعي صالح لكل زمان ومكان منحه المرونة وعدم الجمود..
في الأسبوع القادم سأتناول جانباً من النقاشات التي دارت تحت قبة الاتحاد الأوروبي وبحضور أعضاء لجنة التجارة الخارجية الأوروبية.
عبر تويتر: fahadalajlan@