ما زلت أذكر أيام دراستي محاضرة ألقتها مسؤولة اقتصادية في البنك الدولي عن صعوبة إدارة اقتصاد الدول المعتمدة على النفط. فمن مجمل حديثها أنها قالت: نحن هنا في أمريكا نتجادل ونغير الاستراتيجيات، ونعدل الأنظمة، ونسقط الرئيس أو نعيد انتخابه من أجل نصف في المئة إلى واحد في المئة تغيراً في الناتج المحلي القومي. وفي دول النفط قد يتغير الناتج المحلي حتى ثلاثين في المئة في حالات التذبذب الشديد في أسعار النفط. وهذا يعطي فكرة عن مدى صعوبة إدارة هذه الاقتصاديات النفطية، وعدم استطاعة التنبؤ بها؛ إذ إن أسعار البترول والطلب عليه لا تتحكم به هذه الدول، بل يقررهما السوق الدولية وتحركهما الاقتصادات العالمية. وهذا يستلزم من هذه الدول الحفاظ على كميات ضخمة من الاحتياطيات المكلفة، تعينها على استقرارية الاقتصاد وعزله عن تذبذبات أسعار النفط.
تذكرت هذه المحاضرة وأنا أستمع مؤخراً إلى محاضرة في جامعة هارفرد حول المفاوضات الأوروبية الأمريكية لتحرير التجارة بينهما، ألقاها مسؤول التجارة للاتحاد الأوروبي. قال كارل دي متفائلاً ومشيداً بأهمية هذه المفاوضات: إن نجاح مفاوضات تنتج من صفقة شاملة وواسعة وطموحة حول تحرير التجارة بين أعظم اقتصادين في العالم سينتج منه زيادة للناتج المحلي لكلا الاقتصادين بمقدار نصف في المئة ( 0.5%). وهذا يعني مئات الآلاف من الوظائف لكلا الاقتصادين.
نصف في المئة زيادة للناتج المحلي يشغل سياسيي واقتصاديي وإعلاميي العالم الصناعي على أمل توفير مئات الآلاف من الوظائف الجديدة، ودول النفط مؤخراً تزداد دخولها بعشرات الأضعاف لهذه النسبة سنوياً دون ذلك الأثر الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإعلامي الذي يمكن مقارنته بالعالم الصناعي. فأما اقتصادياً، فأموال النفط ليست ناتجة من جهود بشرية وفكرية وعلمية من شأنها خلق الوظائف التي تلد وظائف أخرى. وبسبب قلة الكفاءات والإمكانيات المهنية الوطنية فإن التنمية القائمة على هذه الأموال يذهب كثير منها للشركات الأجنبية وعمالتها ومواردها الأجنبية. وهذا يضيع كرة الثلج الاقتصادية التي تحدث بسبب الإنفاق الحكومي، والتي يسميها الاقتصاديون بالأثر التضاعفي.
وأما اجتماعياً، فبسبب اعتماد المجتمع الاقتصادي على الحكومات لعقود طويلة فإن الشارع في دول النفط بعيد كل البعد عن فهم الاقتصاد، ويتداول أحاديث لا صحة لها، وتعتمد على مقارنات خاطئة. وهذا بالتالي ينتج منه صعوبات سياسية في التعامل مع الشارع. فترى الكثير يمتعض من احتفاظ البلاد بالاحتياطيات النقدية التي يستحيل إنفاقها بفاعلية في الاقتصاد المـحــلي ، والتـي هـي لازمة للنأي بالاقتصاد البـتـرولي عن الآثار المــدمرة - في حــالة عدم وجود احتياطيات - لانهيار أسعار النفط. كما ترى آخرين يستبطئون نتائج المشاريع التنموية فتظهر كثير من شائعات الفساد التي أعتقد -والله اعلم - أنها مبالغ فيها جداً. كما يطالب آخرون بتوزيع هذه الأموال عبثاً، ولا يدركون أن كثيراً من الأموال هي في الواقع توزع على المجتمع عن طريق الابتعاث والقروض الإنتاجية ونحوها. هذه الأمور وأشياء أخرى جعلت حكومات النفط أحياناً تضطر إلى الابتعاد عن التفكير الاقتصادي الصحيح من أجل مسايرة الشارع ومن يحركه من المستنفعين من بعض رجال الأعمال ومن الشعبويين الاقتصاديين والإسلاميين ومن غيرهم من المتفيهقين. وأذكر، وبعد أن حركت البنوك والمستفيدون من بعض رجال الأعمال برلمان إحدى الدول النفطية لإسقاط الفوائد عن القروض الاستهلاكية عن طريق تسديد الحكومة المبكر لها، أنني قرأت مقالاً لنائب في أحد برلمانات إحدى هذه الدول يكتب بصدق وحرقة مخاطراً بذلك بعدم إعادة انتخابه: إلى متى وأعضاء البرلمان يتسابقون على كسب الشعبيات وأصوات المنتخبين بإهلاك موارد الوطن وإفساد الشخصية المهنية والفكرية للمواطن؟
إن إدارة الاقتصاد الصناعي هو - بلا شك - أشد صعوبة بمراحل من حيث التخطيط الاقتصادي العلمي والحاجة إلى الإحصائيات الدقيقة والنماذج التنبؤية الاقتصادية المعقدة. ولكن إدارة الاقتصاد البترولي تُعتبر أشد صعوبة لحاجته للمدد الزمنية البعيدة المدى لتحويله إلى اقتصاد صناعي معرفي قائم بذاته. وهذا يتطلب صبراً مع أمانة وطنية وثقافة واعية من المجتمع بمختلف شرائحه وانضباطية مهنية وعملية من أفراده، قلما تتوافر في المجتمعات البدائية التي قفزت للحضارة والغنى عن طريق البترول. وليس هذا فقط، فإنه كثيراً ما يتخلى صانع القرار عن القرار الاقتصادي الصائب في هذه الدول النفطية أمام القرار السياسي الذي يقدم فيه المصلحة الوطنية السياسية العاجلة على المصلحة الوطنية الاقتصادية البعيدة المدى.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem