لن يتحقق الاستقرار في وطن تتنازعه الضديات والتنافر، وما نعانيه في الوقت الحاضر داء خطير يهدد المجتمعات العربية، وقد يؤدي إلى تحقيق الحلم الصهيوني، وهو تقسيم البلاد العربية على أساس طائفي، ولعل أبسط مثال ما يحدث في العراق من تضاد بين السنة والشيعة، واللذان يرفضان أن يحكم أحدهما الآخر، لذلك لن ينجح الخطاب الإقصائي الطائفي في وصول دولة العراق إلى الاستقرار ما لم يخرج الخطاب السياسي من كنف الطائفية إلى المدنية أي أن المواطن العراقي عليه أن يرفض المرجعية الدينية في المواطنة والخيارات السياسية، وأن تكون هويته مدنية، وإذا لم يحدث شيء من ذلك سيكون مصير العراق التقسيم.
تعد حالة العراق مثالا صارخا لمختلف الدول العربية التي أصبحت تعاني من محاولات اختطاف الهوية المدنية لتصبح دينية طائفية، والتي انتشرت في العقدين الماضيين، وأصبحت تحاول أن تفرض خطابها المحافظ جداً على مختلف النواحي السياسية والاجتماعية، يصاحب ذلك لغة سلطوية تؤدي لا محالة للانقسام والتنازع على الهوية الوطنية، ولا تكتفي بمحاولة اختطاف الوطن، ولكن تعمل على إقصاء المخالفين لها بخطابين أحدهما طائفي ضد المخالفين لها عقدياً، والذين أيضاً يحملون نفس الموقف الإقصائي ضدها، والآخر ضد دعاة المدنية على أنهم علمانيون وليبراليون.
يحمل الإقصاء الأخير مغالطة كبرى حسب وجهة نظري، لأنه لا توجد إلى الآن تيارات علمانية أو ليبرالية في الأوطان العربية، والسبب أن الخطاب المعارض والمضاد للطائفية في أغلبه مدني يطالب بإصلاح وحريات أكثر، والعلمانية والليبرالية نتاج غربي لا توجد له جذور حقيقية في الشرق العربي، وتطور وسط ظروف وأزمنة مختلفة وعبر قرون من التطور النوعي البشري، وكان لخروجهما حل لإشكالية غربية صرفة، ولا يمكن نقلها للشرق على طريقة القص واللزق، والسبب أن المجتمعات العربية لا زالت في مراحل أولية من الصراع، ولم تصل فيها بعد إلى أطوار الليبرالية والعلمانية.
لكن ذلك قد يحدث في المستقبل، إذا أصرت تيارات الإسلام السياسي على قتل هوامش الحرية في الأوطان، وقد يؤدي ذلك إلى الوصول إلى مرحلة المطالبة بعزل التيار الديني، كما حصل في مصر، لأنه يقف حجر عثرة ضد حريتهم وحياتهم المعيشية، ولأن الخطاب الديني الماضوي لا يقدم حلولاً لأزماتهم الدنيوية، ولأنه فكر لا يمت للواقع بصلة، ويتحدث للعامة من خلال خطاب شفوي أخروي، يحتقر فيه الدنيا، ولأنه أيضاً فكرة مضادة للمواطنة، ولا يقدم حلولا لقضايا المواطن البسيط.
لم تكن العلمانية في الغرب حراكا نخبويا، بل كانت حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا، وذلك بسبب سلطوية الخطاب الديني، وإصراره على احتكار المال والإقطاع، وفي نفس الوقت محاربة العلم والعقل والحد من الحريات واحتقار العامة، وهو ما أدى في النهاية إلى ثورات العوام من خلال فكر إلحادي كالماركسية في الثورة الشيوعية، وعلماني كما حصل في ثورة فرنسا، وهو ما دفع النخب في المجتمعات الغربية إلى التخلص من السلطة الكنسية، وتبني الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية كجبهات مضادة لفكر العوام المتطرف والثائر.
ما يحدث في العالم العربي قد يعتبر في مرحلة الجنين للفكر الغربي في أنماطه العلمانية والليبرالية، والسبب أن التيارات الدينية في هذا العالم أصبحت متطرفة في اتجاه المحافظة، وظهر حرصها على تكوين الثروات، والكل يدرك ثراء حركة الإخوان المسلمين، وتمتع الشيعية السياسية بمرجعيات ثرية جداً، تملك الأموال الطائلة، وتحرص على جمع ثرواتها من الأتباع المغلوب على أمرهم، وعرف أيضاً عن الحركات السلفية ثراءها خلال العقدين الماضيين بعد ظهور الثروة النفطية في الخليج، بل إن بعض رموزها أصبحوا يتاجرون في الدعوة والوعظ ويحرصون على جمع الثروات، وهو ما قد يكون النواة لخروج ظواهر اجتماعية ضد الفكر الطائفي المؤدلج بجمع المال والتسلط على حريات الناس.