مصر التي في خاطري وفي دمي
أحبها من كل روحي ودمي
ياليت كل مؤمن يعزها.. يحبها حبي لها
بني الحمي والوطن من منكم يحبها مثلي أنا
نحبها من روحنا
ونفتديها بالعزيز الأكرم
القصيدة التي رددها الملايين خلف سيدة الشرق أم كلثوم بعد أن خطتها أنامل أحمد رامي وظلوا يتغنون بها عقودا طويلة حتى ذاب تدريجيا صوت الثورة والعروبة من صوت مصر الحبيبة فتبعثر ناسها وتبعثرت ثرواتها تحت سياط الانفتاح والمعاهدات السليمة مع العدو الإسرائيلي ليدفع المواطن المصري ثمن ذلك كله من صورته ومكانته وقيمته المادية والمعنوية في العالم العربي خلال العقود الماضية.
المشكلة أن هناك نستولوجيا خاصة تربط المواطن العربي بمصر العظيمة.. مصر التي هي بالنسبة لكل عربي مصدر للحلم والثورة والاعتزاز والقومية العربية.
لكن أكثر من أربعين سنة من حكم مليء بالفساد والمحسوبيات في عهد السادات ثم عهد مبارك أوقع مصر تحت أجواء انفتاح غير متكافئ وفساد إدراي وسياسي أدى إلى تفشي المحسوبيات وتقريب الأحباب والأقارب وانتشار الفروقات الطبقية بشكل مخيف ليقع من يقع أسيرا لحاجة اللقمة وليفر من يفر من المصريين بحيث تمكنت القلة المتعلمة منهم من ذوي التخصصات الدقيقة من الهجرة إلى الولايات المتحدة (زويل نموذجا) وبلدان أوروبية مختلفة تقل فيها التمايزات العرقية والدينية والطبقية وتحترم حقوق الإنسان في حين لم يبق للكثيرين من المتعلمين والأكاديميين سوى النزوح إلى دول غنية كالدول الخليجية والتي كانت في فترات نهضة كبيرة وتحتاج إلى طاقات عاملة متنوعة في مهاراتها بحيث وجد حتى الكادحون من أبناء الشقيقة مصر وغير المهرة فرصا وظيفية ودخولا مادية هي الأفضل بين الدول العربية.
المشكلة أن المصري الذي كان نموذجا يحتذى في التنور والحضارة والعلم والأنفة تساقط تدريجيا وظهرت صورة أخرى مشوهة لمصري كادح متوسط التعليم أو عديمه وبدخل أقل من المتوسط ويعمل في جد ليل نهار أملا في الستر وتراجعت المفاهيم الحضارية والتنويرية لديه ليحل محلها الكثير من القيم المحافظة والتقليدية في مجاراة واضحة لقيم المجتمعات الخليجية التقليدية التي يعيش في وسطها ويحاول أن لا يبدو مختلفا في أوساطها التي لا تتحمل الاختلاف وتركز على القبيلة بفعل تركيبتها السياسية كما يعني المال فيها النفوذ والسلطة ولذا أن تكون متوسط الدخل أو فقيرا بالمعايير الخليجية فإن ذلك يعني عدم التمكين الاجتماعي مما يدفع تدريجيا إلى الإقصاء والتهميش لكثير من العرب العاملين في هذه المجتمعات حيث يعيشون في أحياء خاصة بهم معزولين تقريبا عن المجتمع الأم الذي لم يسمح لهم بالدخول.
لا أظن أن الكثير من أكفاء مصر الحبيبة وممن عملوا بجد واجتهاد في دول الخليج قد نالوا ما يستحقون من تقدير ومكانة علمية واجتماعية داخل مؤسساتنا المهنية المختلفة بفعل ما يسمى (بالستيريو تايب) أو هذه الصورة الذهنية المتراكمة لدينا حول الشخصية المصرية والتي تبنتها الأفلام والنكات والشوادر المتبادلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للأسف. ويقصد بالستيريو تايب كما يعرفها بعلبكي بأنها “الصورة العقلية التي يشترك في حملها أفراد جماعة ما وتمثل رؤيا مبسطة إلى حد الإفراط المشوه أو هو موقف عاطفي غير مبني على حقائق علمية حول شخص أو عرق أو قضية”.
من هنا كانت إحدى النتائج غير المباشرة لثورة 25 يناير 2011 في مصر أنها ومنذ حدوثها وحتى الآن تعمل في تراكم عقلي متدرج على إعادة تقييم هذه الصورة الذهنية المختلة لصورة المصري داخل العقلية العربية.
أعادت ثورة 25 يناير تلك العلاقة الحالمة للمواطن العربي بمصر التي عرفناها لعقود من خلال نضال شرفائها ومفكريها. بدأنا نرى المناضلين والمدافعين عن قيمهم وبلادهم يناضلون ويسقطون في سبيلها وشكل منظر متظاهري ميدان التحرير ورابعة العدوية ومدينة نصر حاليا من المطالبين بعودة مرسي حلما جديدا اختلط فيه الواقع بالحلم مرة أخرى لتعود تدريجيا صورة المصري التي كنا نعرفها قبل عهود الانفتاح مناضلا ومفكرا وعربيا وحرا من خلال هذه الملايين التي احتشدت في ميادينها. انتقل الزخم المصري منذ الثورة إلى ما جاورها من بلدان ليبدأ الحلم العربي في العودة من جديد من خلال مصر العظيمة بل من المدهش حقا أن حركة (تمرد) الأخيرة والتي بدأت مصرية خالصة وتمكنت من إسقاط حكم الإخوان المسلمين في ثورتها الأخيرة قد انتقلت الآن إلى دول عديدة في المغرب العربي الذي يشهد هو الآخر تسيدا للأحزاب الدينية على مقاليد الحكم بما يهدد كيان الدولة المدنية التي سعت إليها ثورات تلك البلدان تماما كما حدث في مصر الشقيقة.
الحمد لله.. الصورة المضيئة لمصر التي نحبها ونفتديها بالعزيز الأكرم تعود من جديد!