اقتباس: إن نظام العناية الصحية في سنغافورة ليس قليل التكاليف فقط، بل أيضاً فعال جداً في إنقاذ الأرواح.
سيدة الأعمال الأمريكية جيليان تيت في هيرلد تريبيون الدولية
أحاول في هذا المقال أن أقدم مثالاً ملهماً عن الاحترافية الطبية الراقية في بلد يحكم التنظيم العلمي كل تحركاته، هو سنغافورة . عندما انتشر الرعب من مرض « سارس « قبل سنوات قليلة قدمت سنغافورة أحسن التطبيقات تنسيقاً وأقلها تكاليف للرصد المبكر والعزل والمتابعة في العالم . سوف يقول بعضكم هذه دولة صغيرة يسهل التحكم بالأمور فيها، لكن هذا رأي متسرع . المحصلة التراكمية للتطبيقات منسوبة إلى عدد السكان والمساحة وكثافة الحركة عبر المنافذ الوطنية في سنغافورة أفضل منها في الدول الغربية كلها والصين واليابان، ولا يوجد تطبيقات تقترب منها سوى في استراليا ونيوزيلاندا .
السر في النجاح لا يقع ضمن المحدودية الجغرافية والسكانية، وإنما في الاستثمار العلمي الأفضل والتجميع المنهجي للنقاط الإيجابية أولاً بأول، ثم تطبيقها إلزامياً على المستوى الوطني الكامل وليس في الواجهات فقط . إذا انخرمت الأطراف تسربت منها المشكلات ووصلت إلى الواجهات .
أعود إلى المثال الذي وعدت به في البداية من خلال رسالة من سيدة الأعمال الأمريكية جيليان تيت إلى صحيفة هيرالد تريبيون إنترناشيونال في 8/6/2013 م . الرسالة تحت عنوان هكذا تبقى سنغافورة بصحة جيدة، وقالت الكاتبة : قبل عشر سنوات كنت في سنغافورة في زيارة عمل . هناك أصبت بنوع نادر وخطير من الالتهاب السحائي ودخلت في فقدان الوعي الكامل في الفندق . لو في دولة أخرى لكنت فقدت حياتي ضحية لهذا المرض، لولا أن شيئين استثنائيين حدثا . الشيء الأول هو شعور صديقة لي بأن مكروهاً قد حدث أخرني عن الاتصال بها فقدمت إلى الفندق حيث وجدتني في غيبوبة في غرفتي . الشيء الثاني أنها نقلتني على وجه السرعة إلى المستشفى حيث شخص الأطباء حالتي ( التهاب السحايا الحاد ) بسرعة مذهلة، وتصرفوا تجاه ذلك بمقامرة جسورة لإنقاذ حياتي وحقنوا في دمي كل أنواع المضادات المتوافرة لديهم لعدم وجود أي خيط يشير إلى نوع الميكروب المسبب لمرضي . بعد مرحلة الإنقاذ الناجحة نقلني الطاقم الطبي إلى مرحلة إعادة تأهيلي بكفاءة لا تقل عن المرحلة الأولى .
لاحقاً بعد عودتي إلى بلادي واطلاعي على الفاتورة التي سددتها شركة التأمين الصحي وجدت أنها لم تكن مرتفعة بالقدر الذي كنت أتوقعه .
تمضي الكاتبة قائلة : لو أن ذلك المرض حصل لي في أمريكا لكان مبلغ الفاتورة أضعافاً مضاعفةً ، ولربما لم يتم إنقاذي أصلاً، فهل كان ما جرى لي ضربة حظ ؟ . جزئياً ربما، ولكن ذلك لا يحمل كل الحقيقة .
بعد كل هذه السنوات اطلعت مؤخراً على كتاب إلكتروني مذهل ( e-book ) بعنوان : التميز الممكن، كتبه البروفيسور ويليام هازلتاين عن الطب في سنغافورة بطلب من مؤسسة brookings . يستنتج البروفيسور هازلتاين أن النظام الصحي في سنغافورة ليس معتدل التكاليف فقط، بل وفعال جداً في إنقاذ الأرواح لدرجة أنه في الواقع يصلح كنموذج تعليمي تطبيقي في الولايات المتحدة الأمريكية . الأرقام الإحصائية في الكتاب مذهلة .
حالياً في عام 2013 م تنفق الولايات المتحدة الأمريكية ثمانية عشر في المائة من ناتجها القومي على الرعاية الصحية، أي أكثر من أي دولة غربية . على الرغم من بعض الإنجازات المتميزة كعلاج السرطان وأمراض القلب مثلاً، إلا أن أرقام وفيات الأطفال الرضع والمسنين وأرقام متوسط العمر عند الأمريكيين ومقاييس أخرى للصحة العامة غير جيدة . في المقابل سنغافورة تنفق فقط 4,6 في المائة من ناتجها القومي على الرعاية الصحية . على الرغم من أن النظام هناك يخضع للتأمين الصحي، إلا أن مبلغ التأمين المدفوع من المواطن يقع في حدود اثنين في المائة فقط من مثيله في أمريكا . أما بالنسبة لوفيات الرضع والمسنين ومتوسط الأعمار فإن الوضع في سنغافورة أفضل .
لماذا هذه الأوضاع ؟ تتساءل الكاتبة وتجيب من كتاب البروفيسور هازلتاين : أحد الأسباب هو أن سنغافورة أوجدت نظام رعاية صحي من الصفر قبل عشرات السنين فقط، أي أنها لم تبن نظامها على نظام بيروقراطي قديم، وتبنت خطة ترشيدية تركز على رصد مؤشرات الصحة العامة للمواطنين أي الرعاية الأولية . السبب الثاني لانخفاض التكاليف في سنغافورة هو إثارة التنافس في الأداء بين المستشفيات والمرافق الصحية من خلال إجبارها على نشر التكاليف لكل تدخل طبي، وعلى نشر نتائج الأداء الطبي في وسائل المتابعة المفتوحة، مما يتيح المقارنة العلمية والمادية للمواطن . إضافة إلى ذلك يلزم المريض السنغافوري بالمشاركة في تكاليف أي خدمة طبية يحصل عليها، مما يقلل من الهدر في الخدمات الصحية ومن الضغط على شركات التأمين .
الأخبار الطيبة كما تقول الكاتبة عن بلدها هي أن أمريكا بدأت تحاول تطبيق بعض السياسات الصحية المطبقة في سنغافورة . أما الأخبار السيئة فهي أن ذلك يسير ببطء شديد وبشكل معزول هنا وهناك لا ينتظم كل القطاعات الصحية في أمريكا، وترى أنه من المؤسف أن يكون خلف غابة التطبيقات الطبية السيئة في أمريكا ملايين الأشخاص سيئي الحظ الذين لم يحظوا بفرصة مثل التي حصلت عليها هي في سنغافورة .
تعليق الختام : الولايات المتحدة الثرية الكبيرة المغرورة بإمكاناتها تقلد سنغافورة الصغيرة في مجال نجحت هذه فيه أكثر . إذاً كل ما علينا نحن هنا هو أن نترك خصوصياتنا البيروقراطية خلفنا ونقلد النماذج الناجحة.
الرياض