تعوّد بعض منا على عدم إجهاد نفسه في التفكير فيما يدور حوله، لذا فهو يقفز إلى أسهل الفرضيات التي تصادفه فيضفي عليها هو مصداقية ذاتية ليصدقها، وقد يقتنع بشكل أعمق وأرسخ فيما لو صدرت هذه الفرضيات من شخصية مؤثرة عليه، وذات مصداقية لديه حتى ولو لم تكن هذه الشخصية صادقة بالضرورة، فالوصاية جزء لا يتجزأ من تكويننا الاجتماعي والفكري. الخطير في الأمر إن القلة من أصحاب العقول المتقدة، والأنفس الطامحة أدركت هذا الخمول الفكري لدي كثير من العامة فأخذت في استثماره إما لصالحها،
أو لصالح جهات ترغب في الحصول على خدماتها، فأخذت تكيف مقولاتها مع التوقعات الساذجة، والأطروحات الكسولة لكثير من العامة لتغذي الأوهام المتداولة لا لتجلوها، وبما أننا نعيش في مجتمع يحتفي بكثير من الأمور الخرافية، وشبه الخرافية، فإن هذه الأفكار المقولبة الجاهزة تنتشر بيننا انتشار النار في الهشيم.
نحن نؤمن بالطبع بتلبس الشيطان للإنسان، بالرغم أننا لا نتعمق في كيفية ذلك أو الأسباب التي تدفعه لذلك، أو السياقات التي قد يتم خلالها، ولذلك اختلف تفسيرنا له ولطرق علاجه أو التعامل معه، وعندما يتمسك الشيطان بضحيته، ويتشبث بها فهو قد لا يخرج إلا وروح ضحيته معه، وهناك حالات لابأس بها من موت أشخاص خلال عمليات إخراج الشيطان منهم. هذا ليس هو لب الموضوع، والموضوع هو أن عقلية التلبس توحي بأشكال أخرى متعددة من التلبس: التلبس بالحب، التلبس بالسحر العاطفي، أو التلبس بالفكر كما يحصل لمن نسميهم بالفئة الضالة مثلا، أومن نعتقد أن التغريب تلبسهم. وحالات التلبس هذه قد تقدم أحيانا أجوبة سريعة سطحية لقضايا قد تكون أساسية وجوهرية فيما يمكن تسميته بالتلبس الإعلامي أو الفضائي.
والتلبس الفضائي هوإحدى هذه الحالات حيث من الملاحظ أن البعض مثلاً فسر ما حصل من أحداث، هبات أو ثورات سمها ما شئت، في أجزاء من العالم العربي بأن ذلك حصل بتأثير قناة الجزيرة، أو أن ما حصل في مصر مؤخرًا من إزاحة للرئيس هو بفعل قناة العربية، وصور الأمر وكأن الجماهير لا عقول لها وهي كمراوح الهواء تميل باتجاه الرياح الفضائية لهذه القنوات، فالفرد يدير قناة العربية صباحًا ليحدد هل يتظاهر أم لا ظهرًا أو مساءً؟ أي كما لو أن قناة العربية تلبسته وأصبحت تسيطر عليه سيطرة القوى الخارقة على الكون، وهنا بالطبع نتجاوز ببساطة وسذاجة بالغين العوامل التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تتراكم لتصنع الأحداث ونكتفي بلوم الجزيرة، والعربية وغيرهما.
والغريب في الأمر أنه كذلك يصدر أيضا من شخصيات تتسنم أعلى قمم هرم السلطة في دولها وأحزابها مثل الرئيس بشار الأسد، أو المنظر الثورجي الإسلامي الجديد حسن نصر الله، ويمكن إضافة بعض القيادات الإعلامية كعطوان، وسلمان وغيرهم الذين جذروا الفكر الخرافي في عقول العامة. طبعا لا دور للقنوات اللبنانية والسورية لبقاء بشار ونصر الله، ولا قنوات إيران في تثبيت هؤلاء في أماكنهم أو تسخيرهم لخيانة عروبتهم، فقنواتهم لا تؤثر على الناس ولا تحركهم فقط قنوات الجزيرة والعربية هي الوحيدة الشيطانية القادرة على تلبس الملايين وتحريكهم. ولم تكن هذه القنوات ذاتها أدوات لأيد أجنبية كما يزعمون عندما كانتا تدعمان حزب الله ذاته في مغامرته ضد إسرئيل بل كانتا تصدحان بالحقيقة التي كانت تقترب من تصوير حسن نصر الله على أنه المنقذ للأمة من براثن إسرائيل ليتضح لا حقا أن هدفه الحقيقي تطويع الأمة لبراثن إيران. فالصورة على ما تبدو معكوسة قليلا، فحسن نصر هو من استطاع خداع الفضائيات والجماهير وتلبسها لفترة طويلة، وهي لم تتلبسه.
وموضوعيا يمكن القول: إنه لا توجد وسائل إعلام محايدة تماما، وهي لن تستطيع أن تكون محايدة مهما حاولت، وهذه بديهية اعلامية شبه مسلم بها، وهي كذلك ليست مؤسسات وضعها محسنون لخدمة الحقيقة فهي تحتاج لدخل مستمر يمون تغطياتها المكثفة والمكلفة للأحداث، وحتى ترضي بعض الأطراف فلنقل أنها قد تتأثر سياسيا، والمفارقة أن هذا الأمر نلحظه بشكل أوضح في قنوات من يشتكون من قنوات غيرهم، فقنوات مثل المنار، والعالم، والسورية تبدو أحيانا موجهة بشكل يبعث على السخرية واللامعقولية، وبهذه المقاييس يمكن القول: إن الجزيرة والعربية هما أفضل الموجود بالرغم من الفوارق بينهما. بل إن اختلافهما يعد أمر صحيا للمتلقي حيث يستطيع تلقي الخبر من مصادر متباينة أحيانا.
ومعروف أن دائرة الاتصال في الإعلام لا تكتمل إلا بالمتلقي لأن الإعلام لا يخاطب نفسه، وجميع وسائل الإعلام بما فيها الفضائيات تعمل تقييما شاملا مستمرا لمدى مصداقيتها لدى المتلقي لأنه الحلقة الأهم في منظومتها. وهنا يتضح الفرق بين المتلقي الواعي والمتلقي الساذج، وإذا كانت هذه الفضائيات مغرضة، وتهدف لتلبس المشاهد وتحريكه فما دور المتلقي نفسه في مقاومة ذلك، وفي أقل الأمر الانصراف عنها؟ ولو وجدت هذه الفضائيات انخفاضا في مصداقيتها لغيرت استراتيجياتها. ولكن الواقع يقول: إن من يهاجمون هذه الفضائيات يهاجمونها جزئيا فقط ولا يقلون من مصداقيتها عندما تقف لجانبهم، أو يتكلمون من خلالها، مصداقيتها تقل عندما تعرض الرأي الآخر فقط.
مربط الفرس في أغلب الأحيان في ساحة المتلقي، فالمتلقي الذي لا يحركه وعيه السياسي ووضعه الاجتماعي وتحركه الفضائيات فقط متلق قد تحركه فضائيات أخرى دولية مثلا، فالسماء بها عدد لا حصر له من الفضائيات، وإذا اختار طوعاً قناة بعينها لتحركه فهذا ليس إلا دليل على مصداقية القناة الفضائية، إلا إذا كانت هذه القناة لا تستخدم أدوات إعلامية وتستخدم أدوات أخرى خارقة للطبيعة لا تتوفر لغيرها من القنوات.
السؤال الجوهري إذًا: من خلق المتلقي الساذج؟ المتلقي الذي يحمل عقلا مفتوحا على مصراعيه لكل ما هب ودب إعلاميا. من عطل قوى النقد والتفكير والتمحيص لديه؟ من جعله إمعة يسير خلف أول من يتلقفه؟ أليست هي الإيدلوجيات الثنائية الدوغمائية التي ترى العالم كنحن- وهم فقط؟ أليست هي العقلية ذاتها التي يروج لها من يقسّم العالم بسذاجة لقسطاطين، أحدهما صادق مطلقا، والآخر كاذب بالضرورة ؟ ثم ينصب نفسه على رأس القسطاط الصادق معصوما حتى من الخطأ في التقدير. أليست هذه هي العقلية التي قسمت مصر بسذاجة لا تحسد عليها إلى إخوان وفلول، لونان فقط أحدهما معصوم والآخر مأزوم؟
مشكلتنا الحقيقية ليست أن الفضائيات تتلبسنا، فهي جزء من مجتمعنا، وهي لا تشكلنا بقدر ما هي تعكس واقعنا. وهي تعكس واقعنا في مرحلة من تاريخنا استبعدنا فيها العقل والعلم و استغنينا عنهما بالتلبس الفكري الإيدلوجي، والإيحاء بالوصول إلى الحقيقة المطلقة التي تلغي دورهما. ونسأل الله في هذا الشهر الفضيل أن يحيي قلوبنا وينور أبصارنا، فالحقيقة المطلقة الكاملة سر إلهي لا ينازعه بشر فيهما.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود