فلنبدأ بهذا السؤال: هل ضاعت كل الفرص أمام الإخوان المسلمين؟ الجواب: لا، إن اعتبروا.
كان حزب الفضيلة موجودًا في تركيا قبل أكثر من (17) عاماً، وكان رئيسه نجم الدين أربكان.
وفي ظل الشعارات الخلابة المحافظة التي مالت إليها عواطف المجتمع التركي المسلم نجح هذا الحزب في الانتخابات، وفاز أربكان برئاسة الحكومة عام 1996. لكن تطبيق الشعارات - التي كانت في نظر مؤسسات الدولة، ولا سيما العسكرية، وأحزابها محافظة وراديكالية- خلق جواً ممتلئاً بالعداوات والرفض، وانقلب العسكر على أربكان وتم حل الحزب. فهل انتكس التيار الإسلامي في تركيا؟ لم يحصل ذلك. بل استيقظ الإسلاميون المعتدلون العقلانيون، وأدركوا أخطاء الحزب وما جره على نفسه من نقمة. لقد أنشئ حزب جديد باسم جديد وتحت إدارة عقول متفتحة، أدركت أنها لا تعيش وحدها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي التركي، وأن علمانية نظام الحكم لا تحول دون اتباع أفراد المجتمع لتعاليم الإسلام وقيمه وممارسة شعائره في ظل نظام ديموقراطي. ومن هذا المنطلق وعلى أساس هذا المفهوم استطاع زعيم الحزب الجديد رجب طيب أردوغان أن يحشد تأييد المجتمع التركي المسلم لحزبه في ثلاثة انتخابات متوالية. وهو نفسه - أي أردوغان - أكد هذا المفهوم عند زيارته لكل من تونس ومصر بعد انتصار (ربيعهما). ومع أن الفكر العلماني متعمق في تركيا - وعلى الأخص من حيث إبعاد المظاهر الدينية عن المؤسسات العامة والتعليم ولبرالية العلاقات الاجتماعية- إلا أن حكومة أردوغان أبحرت بأمان، تدفع أشرعتها رياح النمو الاقتصادي والمستوى المعيشي الجيد وديموقراطية الحكم واحترام الحقوق. هذا على الرغم من أنه أبعد الجيش عن السياسة، وأحال بعض ضباطه إلى المحاكمة، ولا حق الإعلاميين الذين يناصبونه العداء؛ ولم يجد خصومه منفذاً لإضعاف شعبيته إلا غلطته عندما وافق على مشروع بناء استثماري على جزء من متنزه بميدان تقسيم في اسطنبول. هذه التجربة التركية لا تخلو في جزئها الأول من تماثل مع تجربة الإخوان المسلمين في مصر في أثناء رئاسة محمد مرسي. لذا فإنها تقدم خير درس يستفيد منه الإخوان في مصر كي يصنعوا مثلما صنع أردوغان، إذا وجدت القيادات المخلصة والمقتنعة بضرورة التجديد وبالتعايش والتصالح والديموقراطية.
وقد أوضح الأستاذ جمال خاشقجي - وهو الخبير في شؤون الإخوان المسلمين- في صحيفة “الحياة” بتاريخ 6-7-2013 أن هناك مجموعة معتدلة في صفوفهم ترى أن الجماعة قوة من بين القوى الوطنية الأخرى ومستعدة للتعاون والقبول بأنصاف الحلول؛ وأن هناك كفاءات إسلامية خارج حزب الحرية والعدالة قادرة على التواصل مع القوى الوطنية الأخرى مع التزامها بالمشروع الإسلامي الوطني، لكنها متفرقة بين تيارات عدة، وأنه يمكن لها أن تندمج في تكتل واحد، إذا تحملت قيادة الإخوان التي خسرت معركة 30 يونيو مسؤوليتها واستقالت طواعية، لتفتح الباب أمام جيل جديد يفهم التحولات من حوله ويتفاعل معها بشكل أفضل. وهذا الذي رآه الأستاذ خاشقجي يمثل الفرصة البديلة الواعدة بالنجاح التي تتوافق مع منطق الأحداث؛ وعوضاً عن التوجه المحتقن الذي تدعو إليه القيادة الحالية بمواصلة التظاهر والاعتصام وتحدي الجيش، والمطالبة المتشنجة باستعادة شرعية لم يراعوا حقها عندما كانت بين أيديهم، فإن على التيار العقلاني بين الإخوان أن يوجه المطالبة إلى الجماعة وحزبها بالعمل على استعادة الغرصة من خلال إعادة النظر في تنظيم الإخوان المسلمين من الداخل. فالوقت قد حان لمراجعة ذاتية تنظر أولاً في المبرر التاريخي لنشوء حركة الإخوان المسلمين. فهي قد قامت كرد فعل على انهيار دولة الخلافة العثمانية عام 1924م على يد القوى العلمانية التركية بعد أن ضعفت الدولة من الداخل وتكالبت عليها القوى الغربية المضادة؛ فاتخذت الحركة من تحقيق الحلم التاريخي بإقامة دولة الخلافة الإسلامية هدفاً لها، وتمحور نشاطها السياسي والعقدي طوال (85) عاماً حول هذا الهدف. واستفادت الحركة في التمهيد لقبوله وتبريره من أفكار سيد قطب الذي حكم على نظم الحكم في بلاد المسلمين بالجاهلية ونظّر لمبدأ الحاكمية، وبنت جماعة الإخوان لنفسها تنظيمات سرية تدين بالولاء والطاعة لقيادة المرشد العام، فجعلت كل نظام حاكم في مصر وخارج مصر يتوجس شراً من الجماعة. فهي بهذه الحالة لم تأخذ صورة الحركة الفكرية الدعوية، ولم تأخذ صفة الحزب المعروف ببرنامج سياسي مرتكز على القيم الإسلامية. بل أخذت في الواقع صورة شبح من الماضي ملتف برداء حالك السواد لا يبين ما بداخله. لكن الجماعة عندما رأت أن الظروف السياسية بعد ثورة 25 يناير والتسابق إلى الحكم تتطلب الظهور إلى العلن أنشأت حزب الحرية والعدالة ليكون كياناً ملحقاً بالجماعة تتقنبه أمام التيارات الوطنية الأخرى. ولذلك فشل الحزب ورئيسه في إدارة الحكم، لأن الحاكم الحقيقي هو الجماعة التي تفكر بعقلية متخلفة تاريخياً. وهذا ما يؤكده - على سبيل المثال لا الحصر - هتاف إسماعيل هنية زعيم حماس في غزة، عندما زار مصر بعد انتخاب الدكتور محمد مرسي، بقرب تحقيق حلم الخلافة الإسلامية؛ وأيضاً هتاف المرشد العام محمد بديع في مناسبة أخرى (بأننا أصبحنا قريبين من دولة الخلافة الإسلامية).
إن الاستمرار في اتخاذ دولة الخلافة الإسلامية هدفاً محورياً للجماعة يخيف حكومات الدول الوطنية ويملؤها بالكراهية للجماعة ومحاربتها، لأن هذا الهدف يناقض وجود الدولة الوطنية ويناقض قيم الإسلام الروحية والأخلاقيه حين يجعلها في خدمة السياسة. إن إنشاء دولة الخلافة الإسلامية لم يكن هو في حد ذاته الهدف الأول للفتوحات الإسلامية التي تحققت في الصدر الأول للإسلام، بل كان الهدف نشر الدين الإسلامي. أما وقد انتشر الإسلام واستقر في أركان المعمورة - بل انتشر في مناطق مثل شرق آسيا ووسط أفريقيا دون الانضواء تحت حكم دولة الخلافة. ولهذا السبب نقول إن الجماعة تفكر بعقلية متخلفة تاريخياً. وسيزداد تخلفها عمقاً إن بقيت على ما هي عليه؛ فإن العصر الحديث لا يتوافق مع أنظمة تسخر الدين للسياسة، كما كانت تفعل الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى أو نظام ولاية الفقيه في إيران التي جعلت من الدين مركباً للنزعات القومية والطائفية. ومن أجل ذلك فإن فرصة الإخوان المسلمين تتمثل في تجديد عقلية القيادة وتحويل الجماعة إلى كيان حزبي ذي برنامج وطني واضح يخوض به المعترك السياسي ويبرز للناس قيم الإسلام وتعاليمه السمحة وأخلاقه التي لا تتصادم مع روح العصر وعقلانيته، بل تهذبهما، ولا مع مدنية الدولة ووطنيتها لأن العدل والمساواة وكفالة الحقوق وحماية الأمن والأعراض والأموال وكرامة أبناء الوطن مبادئ يحض عليها الإسلام.