لم يأت بيان هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة والسبعين، بتاريخ 6-8-1434هـ, بمحافظة الطائف قبل أيام -، حول ما يتعرّض له إخواننا في سوريا من حرب إبادة، لا يستثنى منها صغير، ولا كبير، ولا رجل، ولا امرأة، على أيدٍ تظهر العداء السافر لهذا الدين، وأهله من فراغ،
فما يحدث على أرض الواقع من ظروف دولية، وأوضاع عالمية، مثّل بلا شك حقبة بالغة الحساسية، والخطورة، سواء من ناحية كثرة الفتن، ووفرة المحن، أو ما يتعرّض له آحاد الناس من أنواع البلاء، وأصناف الشدائد.
وعند النظر في إدارة الأزمات على الأساس العلمي في المفاهيم الحديثة، فإنّ الحديث عن دور هذه النخبة من العلماء، سيمتد أثره في هذه المرحلة الحرجة التي نعيشها، إلى ضرورة وقف الابتزاز السياسي، ومعالجة دعوات الوقيعة، والحرص على وحدة الدول. وهو ما يمكن وصفه: بضرورة العلم بمقتضيات الأدوات الشرعية, وفقه الموازنات, ومن ذلك على سبيل المثال: رصد حركة ما يدور على الساحة في كافة جوانبه ؛ لاستثمار جوانب الخير، وتعطيل جوانب الشر قدر المستطاع -. وهذه مسؤولية تاريخية عظمى، تستدعي تمكينهم من القيام بواجبهم، وفتح السبل لعلمهم.
أدركت من لغة البيان، أنّ المفتي لا يكون كذلك، إلاّ إذا كان ثقة في دينه. عالماً بمدارك الأحكام، وباللغة العربية. عارفاً بمقاصد الشريعة، وباستنباط معاني الأصول، وبمراتب الأدلة، إضافة إلى معرفته بالواقع، والظروف التي تحيط به، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما عبّر عنه الأصوليون. ويكون ذلك من خلال: جمع المعلومة المتعلقة بالنازلة، والاستنارة بآراء أهل الاختصاص، ومن ثم إسقاط الحكم الشرعي على النازلة، مع مراعاة ضرورة الموازنة بين المصالح، والمفاسد الشرعية المترتبة على الفتوى، حتى يتمكن المفتي من تطبيق القاعدة على الأمور المستجدة، لاسيما وأنها قائمة على أصول الشرع، وقواعده، ومقاصده، وموافقتها القواعد الشرعية الكبرى، ومنها: أن “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض”.
استنكار الهيئة للموقفين الإيراني والروسي!
استنكر بيان الهيئة، إجرام النظام السوري ومؤازرة ما يسمّى بحزب الله، وإيران، وروسيا، له في قتل الشعب السوري، وتشريده، وتدمير بلاده ؛ لتفسح قوى الاستكبار العالمي الطريق أمام القتل الدموي في سوريا، وأبعد من ذلك عندما تقف الإرادتان الروسية والإيرانية بالمرصاد في وجه أي محاولة دولية ولو شكلية ؛ لوقف نزيف الدم في سوريا؛ من أجل حساب مصالحهما الشخصية، ومن أهمها: عدم القبول بفكرة القطبية الواحدة، التي تنفرد بها الولايات المتحدة الأمريكية؛ لقيادة العالم ضمن ما يسمّى بـ: “النظام العالمي الجديد”. وهذا الموقف جعل القانون الدولي، يفشل في إيجاد حل للأزمة في سوريا، باعتبار أنّ سلطة القرار في العالم قائمة على المصالح، فهي من يحكم في نهاية المطاف، وليس على المبادئ، والقيم الإنسانية.
ثم إنّ تفسير اللعبة المعقّدة في سوريا مذهلة، باعتبار أنّ سوريا تشكل العمود الفقري لدولة إيران، وحزب الله. وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط من جديد، سترسم بلا شك نظاماً عالمياً جديداً، وستدار بأعلى درجات الانزلاق نحو مواجهة مباشرة بين أطراف الصراع، خصوصاً وأنّ المنطقة تنتظر عود ثقاب ؛ لإشعالها. فالدفاع عن مصالح الدول الكبرى في المنطقة، يقتضي الحفاظ على التوازنات، والمعادلات السياسية فيما بينها.
بمعايير السياسة، فإنّ الحرب لا تتراجع، وتخاذل النظام الدولي في المنطقة، ينطوي على مخاطر كارثية، الأمر الذي سيحدث واقعاً جديداً، له آثار معقّدة على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ ولأنّ خارطة جديدة للمنطقة كلها ستتشكّل، فلن يكون باستطاعة إيران المساهمة في إعادة رسم الخارطة، أو أن تكون جزءاً من حل أزمات المنطقة؛ كونها قامت على إثارة الغرائز المذهبية؛ مما دفع الكثير من أتباع مذهبها إلى الانخراط في مشروعها الثوري، وفي مقدمتهم ما يسمّى حزب الله اللبناني، وهو ما يلخص سياساتها الإقليمية غير المتعاونة، والتي لا تزال قائمة. فمثلها كمثل من اخترق الحاضر؛ ليترك آثاراً مدمرة في المستقبل مع الأسف. وهو ما يجعلني، أؤكد على أنّ ثمة تغييراً جذرياً سيطول سياسة إيران الإقليمية، وأدواتها.
قراءة في الموقف الإيراني من الصراع في سوريا!
تأتي البراعة الإيرانية في نسج التحالفات السياسية الإقليمية هدفاً ؛ لخدمة مصالحها الوطنية، ولعب دور أكبر على الساحة الإقليمية. وتأمل على سبيل المثال: ما يجري على أرض الواقع من تحالف إيراني سوري -، والذي يعتبر على قمة رأس هرم أولويات مشروع إيران الإقليمي في المنطقة، وهو ما شكّل تحالفاً قديماً بين القطرين في إطار رؤية براغماتية نفعية.
هذه العلاقة الإستراتيجية، تُعَد بمثابة هجوم على التوازنات السائدة في المنطقة، كونها علاقة مصيرية في المشروع الصفوي الإيراني، لا يستهان به، فضلاً عن المصالح الأمنية، والاقتصادية، والثقافية، والدبلوماسية الكثيرة المشتركة بينهما. وهو ما بات يعتبر هيمنة إيرانية شبه كاملة على سوريا، حيث تحوّل الدعم الإيراني المتعدّد الأوجه إلى نوع من الوصايا، والنفوذ. شبهه البعض: بعقد المقارنة بين ما يجري، وبين مرحلة الهيمنة السورية على لبنان.
يبقى الموقف الإيراني الوحيد الثابت في دعمه للنظام السوري، ليس فقط سياسياً، ودبلوماسياً، وإنما بمشاركة عناصر من الحرس الثوري، وحزب الله في قمع الاحتجاجات، ناهيك عن الدعم بالأسلحة، وغير ذلك. وقبل أيام، اعترف قيادي كبير في فيلق القدس الإيراني، بالمشاركة في قمع المعارضين السوريين ، متهماً المعارضة السورية بارتكاب المجازر بحق الشعب السوري، وقال اللواء إسماعيل قائاني نائب القائد العام لفيلق القدس الجنرال قاسم سليماني: “لولا تواجد الجمهورية الإيرانية في سوريا؛ لأصبحت دائرة المجازر التي ترتكب بحق الشعب السوري، أوسع - على حد زعمه”. وقد سبق، أن اعتقل الجيش الحر بعض عناصر “فيلق القدس” في الأراضي السورية، واعترفوا بارتكاب المجازر، والمشاركة في عمليات القمع، والإبادة؛ لتحقيق أهدافه، وإنقاذ النظام قبل أن تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.
فيلق القدس الإيراني، وحزب الله اللبناني، هما ذراع إيران في سوريا. والأخير، يمثل ما يشبّه بالحكومة الواحدة مع سوريا، وهو الأمل في تحقيق المعادلة الصعبة ؛ من أجل الإبحار في رياح سياسية، وعقائدية، وجغرافية مشتركة، وإن اختلفت معها من حيث أيديولوجية التكوين، رغم تحالفهما طيلة الثلاثة عقود الماضية. فالنظام السوري، يتبنّى القومية العربية البعثية، أما النظام الإيراني، فهو نظام ثيوقراطي، إضافة إلى اختلاف الدين، والعرق بين البلدين. ومع هذا، يبقى المحور السوري الإيراني، أحد حقائق الخريطة السياسية للمنطقة.
نجحت إيران في توظيف سياسة التواجد تجاه دول المنطقة، وخدمة مشروعها الإقليمي. وعلى الرغم من وضوح جرائم النظام السوري، وفظائعه، وما يصنعه بشعبه حتى قبل الأحداث، وافتضاح أمره في الأوساط، والمحافل الدولية، فإنّ تزايد حجم الضغوط الدولية على النظام؛ لإجباره على التنحي، سيجعل إيران تحت وطأة حصار يهدد شراكتها، ويقوّض موقفها الاقتصادي، وهو ما يهدد شراكتها مع سوريا.
قراءة في الموقف الروسي من الصراع في سوريا!
في الوقت الذي انتقد فيه بيان هيئة كبار العلماء، ومن قبل دول العالم، موقف روسيا إزاء الأزمة السورية، فإنها تتجرأ مرات عديدة على التدخل في شؤون الشعب السوري؛ لتؤكد مهزلتها في اللعب على الأوراق، وتآكل ضميرها الأخلاقي، والسياسي لدى قادة الكرملين، وإلاّ فإنّ التعامل الروسي مع الحالة السورية، يعكس حقيقة موقفها، وهو: الحفاظ على مصالحها الخاصة، والحفاظ على موقعها كقوة عظمى في العالم، وذلك في إطار مبدأ: “نظام تعدُّد الأقطاب”، وأن يكون لها موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تحالفات إقليمية معروفة، والحصول على عوائد مالية بعدّة مليارات من الدولارات.
وعلى الرغم من المواقف الإيجابية العربية تجاه روسيا، إلاّ أنّ الحكومة الروسية لم تتخذ موقفاً إيجابياً تجاه تطلُّعات الشعوب، وحكومات الاعتدال العربي. وتأمل على سبيل المثال: موقفها المستغرب من الأزمة السورية، وإصرارها على دعم النظام السوري في التنكيل بشعبه، واستخدامها حق الفيتو ؛ للحيلولة دون إصدار قرار إدانة من قِبل مجلس الأمن للنظام البعثي. بل إنه بالغ في الإساءة للضمير الإنساني، حين حثّ شركاءه في مجلس الأمن على تأييد مشروع قرار، لا يتضمّن أي تهديد لدمشق في حالة عدم الإذعان لأي قرار أممي. وتلك مواقف مخالفة بلا شك لمبادئ حقوق الإنسان، حين عرقلت حماية الشعب السوري، وعزّزت النظام الدموي الاستبدادي، وعطّلت قرارات مجلس الأمن.
الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد سياسياً وعسكرياً، وفّر له غطاءً على مدى أكثر من عامين؛ من أجل إخماد الثورة السورية بالقوة. وهي رسالة واضحة على التعامل الخاطئ لروسيا مع الانتفاضة الشعبية السورية، والتي تكمن أساساً في كونها تخالف فطرة الإنسان، والتمسك بظاهرة الطغيان، والتشبث بالسلطة، ما أدى إلى بزوغ ظاهرة القمع، والاستبداد. مع أن الواجب في هكذا وضع، هو اتخاذ كافة التدابير المشتركة ؛ لمنع الأسباب التي تهدد السلم ؛ لإزالته، وقمع أعمال العدوان الظالم، وفقاً لمبادئ العدل، والقانون الدولي.
قبل أن ترمي روسيا الاتهامات جزافاً على الدول، كان الأولى بها أن تحدثنا: عما جرى في بلادها من قمع الأقليات المسلمة في القوقاز، والتركستان، وآسيا الوسطى. وعن فظائع الاستعمار الروسي في القرم، وشمالي القفقاس، وما أوقعته من قتل، وفتك، وسلب، ونهب. بل لا زلنا نذكر، ما حدث في عهد غورباتشوف، وذلك بعد اندلاع الحروب الطائفية في القوقاز، وجورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان، حين تمت عملية تهجير جديدة في سرية تامة، بحيث جرى نقل أكثر من مليوني شخص من هذه المناطق إلى آسيا الوسطى، إضافة إلى ما فعله جنودها ضد الشعبين الأفغاني والشيشاني.
إن من يختار تكوين محور شر، لا بد أن يواجه بما يستحق. وعند التأمل: سنجد أن رصيد حقوق الإنسان في روسيا غير مشرف، فالتاريخ وحده يحفظ وسائلهم القمعية، كما يحفظ أسماء من ذهبوا ضحايا الصدع بكلمة الحق.
خاتمة!
بقي القول: إن المستقرئ للسياستين الإيرانية والروسية، لن يجد صعوبة في إدراك الأهداف الكبرى لهما، سواء كانت تلك الأهداف تتصل بمشروعهما؛ للسيطرة على المنطقة، وتقاسم النفوذ مع المشروع الصهيو أمريكي، الذي غرز من وضع إيران، وجعلها أقوى لاعب في المنطقة، أو بانفرادها بالهيمنة على بعض جيوب دول المنطقة، وتجزئتها إلى كيانات تابعة إيران، وهو ما يُعرف بـ “سياسة الأذرع”؛ للعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي في الأوطان، والدفع باتجاه إحياء المذهبية في أشد صورها تناقضاً وشراسة.
إن العالم عاجز عن أداء واجبه الإنساني، بعد أن فقد القدرة على الإمساك بزمام المبادرة في تقرير مصير الشعب السوري. فالمجتمع الدولي، ومثله الإقليمي، يبحثان عن مصالحهما أولاً، وهما لا يزالان يصدران لنا مواقف لفظية لا أكثر، باعتبار أن الأوضاع الإنسانية في سوريا، ليست سبباً قوياً من وجهة نظر السياسيات الغربية الواقعية؛ للتدخل، ما دام أنّ تلك السياسات ملتزمة بانضباط أمن إسرائيل في المحصلة النهائية.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية