عندما تسمع هذا العنوان “ الدول المتقدمة “ يتداعى إلى الذهن مباشرة وبصفة عامة أمريكا والدول الغربية واليابان والدول المماثلة لها، كل هذه الدول متقدمة فعلا على المستوى المادي والتقني، وبناء عليه تتداعى تلك الصورة الوردية الحسناء الكاملة التامة في حسنها وجمالها، وبسبب طغيان الإبهار والإعجاب بهذه الدول لدرجة فقدان الوعي، صارت هذه الدول مضرب المثل في كل شيء، بل صارت المرجع والمعيار الرئيس للمقارنات والتدليل على مستوى التقدم والتطور، وفي إكسابها هذه الصفة استفزاز للمشاعر، وإشهار وإشعار بالنقص والدونية لمن دونها، ومن المؤسف بل المحبط أن هذه الدول أضحت هي المثال والأصل في الحكم والمقارنة على أي صورة من صور الحياة الاجتماعية على اختلاف أنماطها ومستوياتها، فقد أصاب العقول حول فكري، والعيون عمى ألوان، فلم يعد أحد يرى مليحاً سوى ما تجود به هذه الدول وما تتسم به، حتى وإن كان في المحيط الاجتماعي المحلي ما يماثل ما لدى الدول المتقدمة وما قد يتفوق عليه أصالة وجودة وكمالاً.
تبدو هذه الحالة من الارتماء العاطفي، والاستلاب الفكري عند جل الذين تواصلوا مع المجتمعات الغربية، ويرجع تكوين هذه الحالة من الارتماء والاستلاب التي تبدو في لحن القول عند هؤلاء إلى كون تواصلهم اقتصر على القشور والمظاهر العامة في سبل الحياة الاجتماعية في تلك الدول، وعلى الهوامش من التكوين الحضاري والثقافي والقيمي لهذه الدول، هذا عطفا على كونهم يعانون أصلا من فراغ فكري وانفصام عقلي عن المخزون الثقافي بل والمادي في محيطهم الاجتماعي الذي نشؤوا فيه وتربوا بين أحضانه، وبالتالي لا عجب إن أغمض هؤلاء أعينهم عما يرون في محيطهم الاجتماعي من صور أصيلة غاية في الكمال والجمال وازدروها واعتبروها ناقصة مقارنة بما رأوه في الدول التي يعدونها متقدمة.
أقول مؤسف جدا هذه الرؤية الحولاء، لأن اعتبار “الدول المتقدمة” المعيار والمثال الذي تقاس عليه الممارسات السلوكية من حيث النضج والكمال تنقصه الكثير من مؤشرات العدل والصدق والموضوعية، فهذه الدول الموصوفة بالمتقدمة ليست معيارا صادقا ولا صحيحا بصفة مطلقة للحكم على سلوكات الآخرين لاعتبارات عديدة ليست بخافية على أقل الناس معرفة وإدراكا وفهما لطبيعة التكوين القيمي والأخلاقي والانثربولوجي لكل مجتمع، وخصوصية المجتمعات في هذه الجوانب التي يتعذر المقارنة بينها نظرا لاختلاف المعيار الذي يحتكم إليه بين مجتمع وآخر، فلكل مجتمع قيمه وأخلاقه ومخزونه الثقافي المميز له، والذي لا يقبل البتة إخضاعه للمقارنة مع الآخرين، لأنه لا وجه ولا منطق لإجراء المقارنة بين وضعين يختلفان عن بعض اختلافا تاما يقطع أي وجه للمقارنة بينهما.
قلت المؤسف، لأن من سمات التقدم، واعتبار من يتسم به معياراً ومثالاً، أن يكون متصفا وبشكل تام ومتكاملاً في كل الجوانب التي تشملها عمليات المقارنة، وهذا ما تعذر الاتصاف به في الدول الموسومة بالمتقدمة، لا ريب أن للبعدين المادي والتقني أهميتهما في الحياة الاجتماعية، لكن الأهم منهما والأسمى البعد القيمي والأخلاقي، ورحم الله أحمد شوقي حين قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نعم يتمثل بقاء الأمم حية في وجدانات الناس وعقولهم حبا وتقديرا وإعجابا، بمقدار ما تتسم به من سمت قيمي وأخلاقي، وليس بمقدار ما تتميز به من إمكانات مادية وتقنية، فالإمكانات المادية والتقنية جامدة برغماتية توظف غالبا في التعدي وتحقيق المصالح الخاصة، بينما القيم والأخلاق حية تضبط الحركة من التجاوز والتعدي، وتوجهها وتوظفها نحو الصالح العام.
من الأمثلة الحية على عدم مصداقية صفة التقدم على “ الدول المتقدمة “ ما فعلته في افغانستان وفي العراق وعمى البصر والبصيرة عما يجري في سوريا، حتما الأخلاق هي المعيار الأصدق في التقدم وما عداها بهتان وزيف لا قيمة له.
abalmoaili@gmail