في كل المواقف التي نتبناها نكون مسئولين عن تعاطينا معها، بمعنى أن الحرية لا توهَب، بل إن تحقيقها يتطلب الكثير من الشجاعة وكرامة الإنسان التي منحها الله لنا. إنّ كثيرا من محطات التاريخ يؤكد على حق الإنسان في الحرية والعدالة.

لكن الذين يحاولون تشويه المواقف بتأويلاتهم المتعددة يمنحون فرصة للذين يحاربون المكوّنات التي تتشكل منا وأهمها ثقافتنا التي تتعرض للدين، والتي تحتوي على عناصر مناقضة لعناصر أخرى في نفس الثقافة تتخذ موقف الكراهية والتشدد حينما يطغى حبّ الظهور ورغبة التحوّل إلى نجوم لا ترى سوى صورتها في المرآة، وكنتيجة محتومة فإننا لا نستغرب أن يكون للإعلام المسموم الذي يهبّ علينا من جهات مختلفة، ولكن طريقتها في تشويه الثقافة التي تنبت من تاريخ طويل ومشرّف وشاهد على الواقع العربي الذي يرميه الواهمون في زبالة التاريخ - كما يتمنون - وأحسب أننا مؤمنون بتاريخ أمتنا التي لا تزال تسير إلى المستقبل رغم مؤامرات الأعداء اللابسين أقنعة الأصدقاء. و كان خضوعنا للتزوير في المبادئ والواقع واضحا إن كان يلزمنا توضيح رئيسي للاختلاف بين الشعوب وصمود كل شعب يدافع عن وطن كريم وحرّ و يملك إمكانيات الاستمرار بما وهبه الله من قدرة على التعايش والتسامح و ما سيكون ردّه على دعاوى كثيرين يتبجحون بالزمن الرقمي الذي هو نتيجة للجنون الذي يدير رؤوسهم في كل خطوة يمشيها نحو المعرفة ونحو تحقيق الأحلام التي ألاحظ أنها صارت أقلّ و أدنى وأصغر بسبب هيمنة قوى عالمية وتمكنها بسبب عملائها الواضحين والغامضين من التغرير بالأميين ثقافيا لكي يتحولوا إلى كائنات تحتقر نفسها لانخراطها في لحظة ضعف في صفوف من يُدعوْنَ بالمعارضين ومن يخلق حولهم أتباع تمتلىء أدمغتهم بالشعارات والرغبات المكبوتة. ولست في موقف من يبرّر لهؤلاء ما يؤمنون به إيمانا مطلقا، وحاسما، ونهائيا.

هنالك وصف للذين يحملون شهادات أكاديميات كبرى وهم لا يفقهون مما درسوا ومما جرّبوا في غربتهم التي جعلتهم شبيهين بالأغيار الذين نعمّق نحن وأعداؤنا - معا - ذلك الجدار الفاصل و الذي تحرسه عساكر الآخرين والذين أثبتوا للعالم مدى الحقد و الانتقام الذي تضمره قوى الهيمنة لكل الشعوب التي تمكنت من تحقيق انتصارات على الاستعمار و الاحتلال، والذي يملك وسائل التقنية الشديدة التفوق والمدمّرة رغم سهولة استخدامها ورغم أن الشعوب ينبغي ألا تلهوا بالشقاقات والانقسامات عن مهمتها الأصيلة التي ينبغي تحقيقها قبل الحوار مع الآخرين. ومعروف كم أنه شاق و منهك الجلوس حول طاولة الحوار بين كلّ بني الإنسان ومن مختلف الحضارات والثقافات للتفاهم على المدى الممكن للتفاهم، ومن المؤكد أن الديموقراطيات التي تنظر الى الناس نظرة استعلاء وشعورها بالتفوق وربما حتى بالرغبة في تفتيت العالم وتحويله إلى مزارع لكي تتسع لعطلاتهم و تبتهج مع جرعات الكؤوس الكريستالية.

إنّ ثمة شؤونا ينبغي علينا الاعتراف بوجود قوى من الخارج ومن الداخل ايضا لا يعنيها سوى الشهرة و الظهور بمظهر المناضلين الحركيين، وحين تكف قوى الإرهاب - وهي مفردة قابلة للتأويل إلى أي معجم - عن تدخلها ومحاولتها ضرب الوحدة الوطنية بتفسير تفتعله الجماعات التي تقدم للعدوّ هداياها على شكل ضربات تذكرنا بإحدى أسوأ أحداث العالم والتي تمثلها غارة تنظيم القاعدة على أماكن في إميركا ليست على شكل حرب معلنة بل على شكل ما هو مجرد إعلان عن وجودها بمختلف الطرق و هذا الإعلان مستمر، ولا بد من دراستها كجماعات تتغيّب خلف أبرياء يجري الانتقام منهم بسبب مفاهيم حول الإسلام والعروبة تبثها أبواق الحركيين في أيّ مناسبة و في كلّ مكان.

و معروف أن الإسـلام لم يبنِ دولته العظيمة من الصين حتى إسبانيا إلا بتخيير شعوب العالم بين أن يسلموا أو يدفعوا الجزية وليس رجال زمن الإسلام العظيم من أولئك التكفيريين المتزمتين والأحاديين أولئك الذين يشعرون وكأنهم من يملك الحقيقة دون غيرهم.

وفي تاريخنا الثقافي والفكري ما يشهد لنا بالإبداع المتميز، وهنالك في الجهة المقابلة يوجد ما ينال من مشاعرنا من شعر الجنس وشعر الأنس، وأذكر أن الروائي الارجنتيني ( بورخيس ) قال: إنه يظن أن من واجب كل مثقف قراءة كتاب ( ألف ليلة وليلة ) ووصف الكتاب بأنه يحكي التاريخ دون أن يفرّق بين قصة و أخرى، و لا يمكن لنا أن ننسى قصصا كـ ( معروف الإسكافي ) أو بـ ( قصة توددّ الجارية) الملأى بالحماس والمعرفة.

إن الكثيرين منا يخلطون بين الثقافة و بين الأدب، ويعتبرون أن الشعر العامي يدعو إلى العودة للذهنية المتخلفة و هذا التعبير سيئ جدا ! فالذين يقولون الشعر الشعبي بشر ومتعلمون ومثقفون، وبالطبع، فإن النصوص التي تنشر في الصحف والمجلات المتخصصة بالشعر الشعبي - مع أن تعبير متخصصة غير كاف لتبرير وجود مثلها في المكتبات وطبعا لا نتناسى أنها أيضا متخصصة في الشائعات، وبلغ الأمر أن أصحاب مثل هذه المجلات يستكتبون أحد الشيوخ ليضعوا القارىء والمتابع في غفلة من الشعر الماجن أو المصطنع، لأن الشيخ فلان يكتب في تلك المجلة أو تلك الأخرى.

وأعتذر عن هذه الكمية من الكلمات التي انهالت بنفسها على جملة اعتراضية !. إن ارتباط السياسي بالثقافي هو نفسه ارتباطهما بالاجتماعي.

إنّ الكون لا يتسع للخلافات ولا يسمح بأن يقوم جزء من سكانه بتغيير المناخ في روسيا أو في فرنسا. وهو بالتأكيد قول سيعصف بآخرين من الذين لا يعيرون اهتماما بانتساب الابداع الى الثقافة إلاّ بشروطهم وهي شروط تنتمي إلى الماضي ولا تهتم بالسيرورة ولا بالحتميات التاريخية. ولكنّ في كلّ أمم الأرض هنالك أزمنة رديئة ! ، وفي الأزمنة الرديئة يمتلىء الهواء الذي نستنشقه بالكيماويات التي يصنعها الأقوياء والشريرون.

وإن كان الإنسان عربيا ظل طول عمره يحلم بإجازة من السياسة يعيد فيها النظر إلى الواقع. هو الذي ظلّ طوال عمره يمارس تناسي نفسه في تعاطيه السيئ مع الآخـر (!). إنه حلم جميل أن ننسج خطابنا الثقافي للشعوب الأخرى من داخل ما هو خاص بنا ولكنّ خصوصيته لا تعني انعزاله ولا نفيه من نعيم وطن ٍ يستحقّ الاحترام.