تمر مصر في خاتمة الأزمات في تاريخها الحديث، الذي بدأ تنويريًا خالصًا، وانتهى به الأمر صراعًا شرسًا بين المدنية والأصولية الدينية، ولا بُدَّ من استرجاع بعض المحطَّات الرئيسة في تاريخ مصر الحديث، في وطن كانت تعتبر المثال النموذجي في السلم والأمن الأهلي منذ التاريخ القديم.
مصر بلد الأوليات والمُتغيِّرات العربية الأبرز، ناضل شعبها من أجل أول دستور للبلاد، في الفترة ما بين عامي 1805 و1882، وانتهى بإصدار دستور للبلاد سنة 1882 في عهد الخديوي توفيق، ثمَّ ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزي أن ألغته، لكن الشعب المصري واصل جهاده إلى أن صدر في 19 أبريل سنة 1923 الدستور الثاني في تاريخ البلاد، الذي انعقد بسببه لأول مرة برلمان مصري في 15 مارس سنة 1924، وكانت مواد الدستورين تتناول الحقوق والحرية والتنظيمات الإدارية والتشريعية من دون الحاجة لذكر لأيِّ مرجعية تشريعية دينية.
صدر الدستور الثالث، في عام 1971، وكان أول دستور يظهر فيه تأثير بدايات الخطاب الأصولي الديني المحافظ، فقد ذُكر في أول مواده أن دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، وبعد صراع تَمَّ تعديل الدستور عام 2007م ليكون بعد إضافة ال التعريف، الشريعة الإسلامية المصدر التشريعي الرئيس، لكن تعديله في عام 2012 كان إعلانًا دستوريًا للقضاء على بقايا المشروع التنويري في البلاد، وهو ما أشعل شرارة الصراع في الميادين، عندما نصّ على جملة جديدة تظهر الفارق الكبير بين مصر 1882، ومصر 2012، بعد أن نصَّت أحد مواد الدستور على أن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلَّتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنَّة والجماعة.
صاحب تلك المُتغيِّرات في الدستور المصري ظهور شخصيات كان لها أثرها الكبير على تقلُّبات المجتمع المصري، ومن أهم الشخصيات التنويرية والدينية في تاريخ مصر الحديث، الإمام محمد عبده (1849- 1905)، الذي يُعدُّ واحدًا من أبرز المجدِّدين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح، وأعلام النهضة العربيَّة الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الديني الذي أصابه لعدة قرون، وفي إيجاد حلٍّ توفيقيٍّ ووسطيٍّ بين الأصولية المتشدّدة وبين النهضة الغربية الحديثة.
ظهر طه حسين (1889 - 1973م) كأديب وناقد مصري، لُقّب بعميد الأدب العربي، ولازال أحد أبرز الشخصيات في الحركة العربيَّة الأدبيَّة الحديثة، يراه البعْض من أبرز دعاة التنوير في العالم العربي، في حين يراه آخرون رائدًا من رواد التغريب في العالم العربي، كان مباشرًا في أطروحاته، ولم يكن توفيقيًا على الإطلاق، فقد طالب بالتحديث والانتقال بالمجتمع المصري والعربي إلى مرحلة التنوير مباشرة.
قدم عباس محمود العقاد (1889-1964) قراءات موضوعية وإسهامات ثرية في الثقافة العربية الإسلامية، ودعا إلى تقدير الجمال الذي هو الحرية، فالإنسان حسب رؤيته عندما ينظر إلى شيء قبيح تنقبض أساريره ويتكدَّر خاطره، ولكنَّه إذا رأى شيئًا جميلاً تسعد نفسه، ويطيب خاطره، ولا يمكن أن نصل إلى ذلك الشُّعور إلا في جوٍّ من الحرية، لكنَّه أكَّد على الهوية العربية، وقد كان له إسهامات في اللُّغة العربية، وأصدر كتبًا يدافع فيها عن اللغة العربية.
كان لحسن البنا (1906 - 1949م) الدور الرئيس في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية، كردَّة فعل على تلك الأطروحات التي قفزت بالمجتمع المصري الحواجز إلى مرحلة التنوير الكلي، والخالص من أيّ الحلول التوفيقية مع التفاسير المتعدّدة للدين، وقد قاومت الأحزاب المدنية فكر حسن البنا، وحالت دون توسع رقعة الإخوان المسلمين السياسيَّة، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، وقد كانت أول فصول المواجهة في الميادين.
وجد سيد قطب (1906م - 1966) ضالته في الدِّراسات القرآنية للخروج من الاستبداد التنويري إن صح التَّعْبير عبر العودة إلى الأصولية والتكفير، وكان له الدور الأهمّ في إطلاق قراءة جديدة في ذلك الاتجاه، وإلى وضع الأسس التي فتحت الباب للمواجهة العسكرية على مستوى الأمة بين التيارين، وإلى حق اللجوء للعنف من أجل إقامة دولة الإسلام، لذلك عدّ سيد قطب من أوائل منظري فكر السلفية الجهادية التكفيرية، وقد كان طرحه بمثابة الكارثة في طريق مستقبل التنوير في مصر. الموقف المعارض للإخوان لم يكن نابعًا من مؤامرة خارجية كما يعتقد البعض، وليس من تدبير فلول النظام القديم، لكنَّه في واقع الأمر امتداد لفصول من الصراع المرير بين التيار المدني والديني، تحكيها بشفافية مراحل تغيير الدستور المصري، وتظهرها سيرة عمالقة الفكر العربي والديني في العصر المصري الحديث، وقد يطول أمد الصراع الذي أخذ أيضًا أطوارًا سياسية، ولا يتسع المقال لسردها.