إنه شهر الطاعة والمغفرة، إنه شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر يعين الله عباده، فيه يحبس المردة من الجن والشياطين حتى لا يتسلطوا على عباده ويُكسّلوهم عن العبادة.
فيجب اغتنام الفرص فيه، عبادة مع التسابق في الخيرات، واغتنام سويعاته في العبادة صلاة وقراءة للقرآن وقيام ليله، مع الصدقة على المحتاجين، ومع حفظ اللسان عن اللغو والرفث والغيبة والنميمة لحث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو يقول: (من لم يدع قول الزّور والعمل به، فليس لله حاجة في صلاته وصيامه)، وقالوا له عن امرأتين صامتا وجلستا تأكلان أعراض الناس فأمر بإناء وأمرهما أن تتقيئا فيه، فقاءتا دما ولحما عبيطا، فقال: صامتا على ما أحلّ الله وأفطرتا على ما حرم الله.. الحديث.
ولفضل السؤال عن الأمور الدينية، حتى يحتاط المرء لنفسه، ولآداب الصحابة عليهم رضوان الله ورحمته، فقد جاء جبريل عليه السلام، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرفه منا أحد، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبته إلى ركبته وجعل يديه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فعدّد عليه أركان الإسلام الخمسة، ثم سأله عن الإيمان؟ فعدّد عليه أركان الإيمان الستة، ثم سأله عن الإحسان فأخبره بركنه الإحسان، وفي كل مرة يقول جواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فعجبنا له: يسأله ويصدّقه.
فلما ذهب قال صلى الله عليه وسلم: أتدرون من السائل: قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، متفق عليه. وهذا زيادة في التمكين والتأصيل، فشهر رمضان وصيامه جزء من الدين الذي أراد الله على لسان جبريل، ليعلمه للناس والصحابة ليطبقوه وينشروه ولم يتضح في الرواية: هل هو قبل نزول الآية التي فرض الله بها على أمة محمد الصيام ليحرصوا عليه امتثالاً، بعدما خالفت الأمم السابقة شرع الله، يقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (الآيات 183 - 185) من البقرة، وقد شرّف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصفة الإيمان وصفة التقوى.
وفي غزوة تبوك، وكانت شديدة الحر رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمجاهدين الفطر لأنها في رمضان، حتى يتقووا على الجهاد، وقالوا: منّا المفطر ومنا الصائم، فلم ينكر أحدهما على الآخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم صائم.
فرمضان شهر الخير والمغفرة، وهو ركن من أركان الإسلام الستة، يجب صيامه على كل مسلم عاقل بالغ قادر على الصيام، وشروطه أربعة: الإسلام فلا يجب ولا يقبل من كافر ولا مرتد، لأنه عبادة فلا تجب إلا بالإسلام، وليس بعد الكفر ذنب، ولو صامه الكافر لا يقبل منه. الثاني: العقل فلا يجب على المجنون، ويقال: إذا ذهب العقل سقط التكليف. الثالث: البلوغ فلا يجب على الصبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: الكافر حتى يسلم، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ)، وفي رواية (والصبي حتى يبلغ).
ومن فضل الله على عباده المؤمنين، من أهل الإسلام المواظبين بعد الفرائض على النوافل، أن كلف ملائكته: (إذا سافر العبد، أو مرض أن يكتبوا له من الأجر ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، وقد أخذ من هذا: إن الله يحب أن تجنب نواهيه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وبان هذا في أصحاب الأعذار، وتيسير الأمور عليهم، فقد كان الصحابي عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: وهو ووالده من أحرص الناس وأعرفهم بترسّم خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك في السفر وفي الصيام، وفي قصر الصلاة والأماكن التي يمتثلها قدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أنه رأى رجلاً من رفاقه يتنفل في السفر في الصلاة، فقال له: لو كنت متنفلاً لأتممت الصلاة، ولما أفطرت في رمضان - وكان في سفر - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر في صيامه، وقصر في سفره، ولنا خير أسوة حسنة، الله يقول سبحانه: (فعدة من أيام أخر)، والفقهاء رحمهم الله أجمعوا على أنه يجب صيام رمضان، إذا رؤي الهلال بدخول الشهر، على كل مسلم ومسلمة بالغين قادرين على الصوم لتصبح شروطه أربعة:
1 - الإسلام فلا يجب على كافر أصلي - حتى يعلن إسلامه.. ولا مرتد عن الإسلام حتى يعلن توبته بصدق وإخلاص.
2 - العقل فلا يجب على المجنون الذي لا عقل له لقوله -صلى الله عليه وسلم- (رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق) وهذا أولهم.
3 - البلوغ: أي بلوغ الصبي سن الرشد، وهذا من علاماته إثبات الشعر في الحدّة أو بلوغ خمسة عشر والحيض بالنسبة للإناث. للحديث السابق الذي رفع القلم عن ثلاثة، وذكرنا منه بلوغ الصبي وهنا: والصغير حتى يبلغ.
ويتساوى في هؤلاء الثلاثة: الذكور والإناث لان التشريع عام، إلا ما جاء فيه خصوصية لأحد الطرفين.
4 - ثبوت رؤية الهلال بدخول شهر رمضان، إذا كان الجو صحواً، فإن كان الجو غائماً أو عليه قتر أكملوا عدة شعبان 30 يوماً.
- ويتساوى كما قال العلماء في الأحكام الشرعية وكما قلنا الذكور والإناث إلا ما خصّه الدليل بأنه خاص بالذكور أو الإناث.
ويرى علماء الفقه: بأن الصبي (الغلام)، إذا أطاق صيام ثلاثة أيام، فيجب عليه الصيام لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أطاق الغلام ثلاثة أيام، وجب عليه القيام لشهر رمضان، ولأنه يعاقب على تركه، رواه عبدالرزاق بسند فيه فقال: قال بعضهم وهذا صفة الوجوب.
ويعضد ذلك حديث (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)، وكان علماء السلف يحرصون من منطلق هذا الحديث، على التنفيذ بأمر الصبيان إذا أطاقوه، وضربهم عليه ليعتادوا لكنه لا يجب عليهم إلا بعد البلوغ، وهذا يدل على أهمية شهر رمضان في شريعة الإسلام، الذي تحايل من قبلنا، فمنهم من جددوا أياماً في فصل الشتاء ومنهم من يصوم بعض الليالي، ومنهم من يصوم عن نوع من الأطعمة كبعض النباتيين، ومنهم من يتحايل في الصيف وأحياناً في الشتاء لأنه من الشهور القمرية، وجاء في تسمية الشهور القمرية أسباب لتسميتها عند العرب فكان رمضان أول ما أطلق عليه هذا من الرمضاء، وهي شدة حرارة الشمس في كتب التوسعات (الموسوعات) العربية، لأن التسمية من المجانسة، صفة أو سماً وغير ذلك، كما قال ابن قتيبة في كتابه: فقه اللغة، ومن ذلك تسمية الشهور كلها عند النويري في موسوعته أيضاً.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يجود في العبادة، وفي العشر الأواخر يشد المئزر في رمضان، ويعتكف في آخر الشهر ويوقظ أهله. ويقول لأصحابه في شهر شعبان لترغيبهم في الخير: أقبل عليهم شهر فاستعدوا له: (أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار)، كيف لا وهو شهر نومه عبادة؛ لأنها تقوّي على طاعة الله، وليله صلاة ونوافل، وريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما جاء في حديث: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك): نهاره صيام وتلاوة للقرآن، وليله صلاة وقيام، وترقّ فيه القلوب، وتجود الأيدي بالصدقة والمساعدات.
ولذا كان على المسلمين الاستبشار به، واغتنام فرصه في طاعة الله، ويتطلعون في الأفق لترائي هلاله، فإذا رأوه استبشروا وهنأوا بعضهم بعضاً، طمعاً فيما أعدّه الله للصائمين من أجر، تلمساً للخير، كلمة طيبة، وتلاوة كتاب الله، وحرصاً على معرفة المحتاجين ليجودوا بما أعطاهم الله، وترق القلوب وتحفظ الألسنة إلا عن الذكر وتلاوة القرآن والكلام الطيب. وتراءي هلاله فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا، ويجب الصيام بثلاثة أمور:
إكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو رؤية هلال رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن وجد غيم أو قتر كالغبار، ليلة الثلاثين مما يحول دون الرؤية، فإن رآه واحد عدل مع ذلك صام وصام الناس بشهادته، وإلا الشهر ثلاثين يوماً.
أما عند نهاية الشهر فلا يفطر الناس إلا بشهادة اثنين عدول، أو كمال الشهر 30 يوماً، ولا يفطروا بقول الواحد قبل الثلاثين.
جاء في حاشية العدة على العمدة: مسألة ولا يُفطر إلا بشهادة عدلين لما روى عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، والضمير يعود للهلال، فإن غُمّ عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وافطروا) رواه النسائي.
ولأن هذه الرؤية يدخل بها في العبادة، ولهذا قيل فلم يقبل بها الواحد كسائر الشهادة، كما في آخر سورة البقرة بالشهادة على الدَّيْن: رجلان أو رجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، وجاء التعليل: بأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
ولا يُفطر في الخروج من رأى الهلال وحده، لما روي أن رجلين قدما المدينة وقدر رؤية الهلال، وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر رضي الله عنه فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر، قال: فما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال؟ وقال الآخر: أنا صائم قال فما حملك على هذا؟ قال: لم أفطر والناس صيام فقال للذي أفطر، لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، ولأنه محكوم به في رمضان (العدة 1: 215).
وعن أحكام المفطرين في رمضان فإنه يباح لأحدهم المريض الذي يتضرر بالصيام، فإن كان لا يُرجى برؤه يفطر ويقضي.
الثاني: المسافر الذي له القصر، فالفطر له أفضل لأن الله سبحانه كما قال سبحانه: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أياماً أخر) (البقرة 185)، ولقوله صلى الله عليه وسلم للحميري: ليس من البر الصيام في السفر. ويقضيان بعد زوال السفر والمرض.
الثالث: الحامل والمرضع: سواء خافتا على نفسيهما: أفطرتا وقضتا كالمريض فإن خافتا على ولديهما أفطرتا كالمريض، وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً لقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (البقرة 184).
الخامس والسادس: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان، وإن صامتا لم يجزهما. قالت عائشة رضي الله عنها في الحيض: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. والنفساء تقضي الصوم فقط. السابع: العاجز عن الصوم لكبر ومرض لا يرجى برؤه. قال ابن عباس: رخّص له الإطعام عن كل يوم مسكيناً، وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير، إلا من أفطر بجماع في الفرج فإن عليه كفارة مع القضاء.
mshuwaier@hotmail.com