سَيحل علينا قريباً شهر رمضان المبارك، وسيكون المسلمون أسعد الخلق بحلوله. فنفحاته الإيمانية لا تضاهيها قناة من قنوات السعادة الدنيوية المتاحة، وفيه تتغير الكثير من أنماط الحياة المعتادة، فمواعيد المأكل والمشرب لم تعد كما كانت، وكذلك النوع، وحتى الطعم والرائحة، إضافة إلى الإقلاع في هذا الشهر الكريم عن بعض العادات غير الجيدة، ولعلها تكون تدريباً لإقلاعٍ نهائيٍ عما يشين المرء في سلوكه، ومأكله، ومشربه.
أما المناشط، فإنها تنتقل من النهار مع حر الظهيرة، إلى المساء الذي قد يحمل شيئاً من نسمات الصبا التي قد تطفئ لهيب الصيف الحارق. لكن ومع توفر الأدوات والإمكانات أصبح جهاز التكييف نسيم صب دائم، في الليل، والنهار، ولم يعد جيل هذا العصر يحس بذلك الإحساس الجميل، لنسمة الصبا النادرة الحدوث في شدة الصيف الذي تتقاطر فيه حبات العرق من الجبين، وسائر الجسد، لكنه طقس اعتاد المرء عليه، فكان جزءاً من حياته، وهو اليوم اعتاد على جهاز التكييف، فأضحى لا يفارقه حتى في سيارته، جعل الله نعمه علينا دائمةً، وظاهرةً، وباطنه.
رمضان في سابق الزمان، كان يحمل في موائده الكثير من المقليات، و المعجنات، وسائر الأكلات، لكن فيما يبدو أنَ ثقافةً جديدةً قد أخذت تُداعب عقولاً كثيرةً، لتصرفهم عن تلك الأغذية غير الصحية، إلى بديلٍ، ربما يكون أقل ضرراً، وأكثر نفعاً، ولا سيما وأن البعض حمانا الله وإياكم، قد ناله من أمراض العصرما يجعله يجاهد نفسه للابتعاد عن ذلك النمط المعتاد من الأكل، حتى وإن كانت نفسه تواقةً إلى تذوقه، وربما الإكثار منه.
إن في رمضان متعة أخرى، وهي التزاور، والتقارب، واجتماع العائلة والنقاش بين أفراد الأسرة في أمور كثيرة، وقد لا يخلو النقاش من ارتفاع الأصوات، لا لسبب بذاته، وإنما لأن الجميع يتحدث في وقت واحد، وكل فرد يريد أن يستمع الآخرُ إليه من خلال رفع الصوت، وهكذا تكون الحال، فلا يفهم أحد على الآخر، كما أن النقاش قد لا يصل في النهاية إلى نتيجة واحدة متفق عليها، وإنما هو حديث ينتهي كما بدأ، وهكذا دواليك، وهذه عادة تتجاوز عالمنا العربي، إلى بعض شعوب الأرض المنتشرة في أرضه الواسعة.
انتهى من نهاية شهر رمضان إلى بدايته عام إلاَّ شهراً، ولو أمعن المرء النظر في تلك المدة، وحاسب نفسه على ما قدم، وتبصر في كشف حسابه الأخروي، و الدنيوي، فقد يجد أنه لم يضف سوى إضافة محدودة لدى البعض، وثمينة لدى البعض الآخر، ولو تذكر ما ارتكب خلال تلك المدة من أخطاء لكان شجاعا لو أنصف نفسه، وعرضها على ميزان العدل، ليرى عن حُجةٍ، تلك الأخطاء، ليتلافى الوقوع فيها في سنواته القادمة، ولو أن الإنسان يراجع كشف حسابه كل عامٍ لأصبح من أكثر الناس بُعداً عن الخَنَا، وقريباً من مراتع المروءة، والوفاء، والقدرة على الإنتاج والإبداع، وكشف حساب آخر جدير بالنظر إليه، وهو ما قدمته الشعوب الإسلامية، خلال تلك الفترة الفائتة، ليجد نفسه ينظر إلى ماض قاتمٍ، تَخَلَّلَتهُ الكثير من النزاعات، والصراعات، والدماء المسلمة التي ذهبت دون وجه حق، بأيدي مسلمين من بني جلدتهم، ومعتقدهم. والأَمَرُّ من ذلك والأدهى أن تلك الفترة الوجيزة، قد أضافت في عقول المسلمين مزيداً من الكراهية، والتطرف، والبعد عن الاعتدال، وكذلك توزيع الموزع في التيارات المختلفة، وتحويلها إلى مِلَلٍ، ونِحَلٍ، كلُ مِلَّةٍ أو نِحلَةٍ، لا أقول تَلعَنُ أُختها، لكنها تُحرِّض عليها، وتسعى إلى إسقاطها، حتى وإن كلف ذلك خراب الديار، وقتل البشر بأدوات كانت مُعدَّةً للحفاظ على الأوطان والدفاع عن الأموال والأغراض. وهذا التحول الفكري سيضيف لَبِنَةً إلى لبنات سابقة من التَّشَرذُمِ الفكري الذي لا يناقض بعضه بعضاً، وإنما يصارع بعضه بعضاً، بكل الأدوات المتاحة.
رحمنا الله وإياكم، وهدانا سواء السبيل، وجنبنا الفتن وأرانا الحق حقّاً، لنتبع أحسنه.