|
حاشية لا بد منها
في الخامس من تموز دخل نهر الفرات إلى مدرسة جديدة، وتعلم كيف يقرأ، وكيف يكتب، وكيف يمارس الحب مع الحقول والأشجار بطريقة عصرية. وعلى باب المدرسة نزع الرئيس حافظ الأسد عن الفرات، عباءته الطينية وقصَّ شعره الأشعث وأظافره الطويلة، وأعطاه قلماً ودفتراً ودواة حبرٍ أخضر، ليكتب يومياته كأي نهر متحضر، وأعلنَ وهو يحوِّلُ مجرى النهر إن سدَّ الفرات، ليس عملاً هندسياً خاصاً بسوريا، لكنه عملٌ قومي من أعمال التحرير، وهذا الكلام يعني بوضوحٍ أن لفلسطين حصتها من السد السوري.
طوفان في بلاد البعث – 2003
عمر أميرالاي – مخرج سوري
(1)
كشف عمر أميرالاي المتوفى قبل واحد وعشرين يوماً من طوفان الشعب السوري، في الأسبوع الأخير من شهر شباط 2011. قال: إن البروباغندا التي كرسها نظام البعث في مناهج التربية لم تكن سوى بروباغندا موجهة إلى تمجيد فكر البعث وصورة القائد، أو ما سمي بحسب أدبيات البعث (الأب القائد) على مثال ماويٍ سافر ومقلد. الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عمر قرأ حصيلة أربعة عقود من حكم النظام العائلي الأقلوي المتسلط والفاسد، وما أحدثه من استنقاع ثقافي، أسس منهجية تخديرية طالت الشعب السوري برمته. إلا من بقي في رؤوسهم بعض العقل الحرمن الذين عملياً، بقوا، سواء، على موقفهم السلبي، من السلطة في بلادهم (نزار قباني، صادق جلال العظم، سعد الله ونوس، عبد الرزاق عيد، برهان غليون، بوعلي ياسين .. إلخ) أو الذين كان لهم موقف الحياد السلبي، فلم يتدخلوا في الأمر السوري، سواء بالكتابة أو برفع الصوت، وعلى رأس هؤلاء الشاعر والمثقف السوري – العالمي كما يحب أن يسمى علي أحمد سعيد إسبر – أدونيس.
عرى فيلم أميرالاي البعث ومعه حافظ الأسد، من كل القمصان العروبية والقومية التي لبسوها، أو ألبسوها لأنفسهم ولفكرتهم، في سبيل تمكين الطغيان، من إطباق سيطرته على شعب مسالم وأعزل وفقير، فالبعث هو جوهرة الأحزاب وخلاصة رحيق القومية العربية وباعث العنفوان في شخصية الإنسان العربي الثائر على الظلم. أما الرئيس القائد فهو الأب والأخ والأم، الحنون والرؤوف والعطوف، الساهر على الجميع وعلى حمايتهم وراحتهم، وهو المثقف والمفكر والمخترع والملهم والشاعر والأديب والعبقري، وقد جمع حافظ الأسد في حياته ألقاباً لم تمنح لنبيٍ في كافة العصور.
قالت صورة الفيلم إن السوريين شعبٌ مكسور، مظلوم، محكومٌ من عصابة في أفضل الأحوال فوق هذا كله، قالت الصورة الحقيقة. الحقيقة التي قالها أميرالاي بقسوة لم تسعف النظام لحبسه، حيث كان من الممكن إقامة حملة عالمية ضد النظام. لعب أميرالاي على شهرته العالمية كثيراً لحمايته من بطش النظام. لكنه دون أدنى شك، تعرض للكثير من المضايقات في حياته،كما كتب عباس بيضون صديقه بعد وفاته. المرة الوحيدة التي رأيته وجها لوجه في مكتب سمير قصير في بيروت، وسألته عن الفيلم وكيف أن النظام لم يعتقله كما اعتقل غيره، قال لي: إن النظام اليوم لديه طرق ووسائل أكثر عصرية للتضييق على المثقف. منها، أنه يشعرك « أنك في السجن حتى لو كنت في بيتك بعدما حول البلد برمته إلى سجن « قال عمر هذا من تجربته في مكتب صحافي ومؤرخ فلسطيني، اعتُبر الأقسى في انتقاد نظام البعث هو سمير قصير الذي تشير كل المعطيات إلى أن هذا النظام هو من قتله. سواء بشكل مباشر أو من خلال أدواته التي لا تزال تحيل حياة لبنان إلى جحيم، كلما طاب لها ذلك.
بدأ عمر حياته السينمائية بفيلم عن الفرات (محاولة على سد الفرات – 1970) وختمها بفيلمه «طوفان في بلاد البعث – 2003 « الذي كان يريد تسميته «خمسة عشر سبباً لكرهي لحزب البعث» وهو وإن لم يمنحه هذا الاسم فإن كل صورة من صوره كانت معبأة بالكره على هذا الحزب الذي سرق حياة السوريين الذين انتفضوا على هذا الواقع، بعد أيام من وفاة أميرالاي.
(2)
ليس السجالُ الذي تدور أحداثه على صفحات الصحف العربية، بين أدونيس وصادق جلال العظم. ليس سوى عينة، من إفرازات حكم البعث، لبلد من أكبر البلدان العربية، وأكثرها حضوراً في التاريخ والجغرافيا والدين لا أهدف هنا، فقط إلى توجيه سهام النقد إلى أدونيس، مع شخصية مثله لا ينفع النقد. هذه حقيقة مرة، لكنها حقيقة. أدونيس يكاد يكون المثقف العربي الأكثر سجالاً حول أفكاره وطروحاته النقدية ويده المغموسة دوماً في قلب التراث وجهوده في التنقيب والنقد واضحة وجلية ولا يستطيع أحدٌ أن ينكرها أو يتنكر لها لكنه لا يستعمل العين التي يسعى من خلالها لرؤية عورات التراث، لا يستعملها في رؤية المشهد السوري المعاصر. مشهد بلده الذي يدمر بآلة عسكرية حقودة وتافهة ومن رئيس شاب لكثرة اشتهائه تماهي صورته مع صورة والده، فاقه طغياناً لكنه لم يفقه ذكاءً وحنكة. حين ابتدى الحراك الثوري في درعا من قبل بضعة شبان في نهاية المراهقة سكت أدونيس يومها، وبينما كانت الصحف العربية، مزدهرة بالمقالات التي تؤازر الشعب السوري، وتقف إلى جانبه، كان أدونيس ينشر قصائده الغزلية بعد أسابيع وبعد أن حاصر النظام سكان درعا في مسجدها. قال أدونيس: إن الثورات التي تخرج من المساجد «لن تنتج ديمقراطية بل حركات أصولية تكفيرية لن تجلب لسوريا سوى الدمار ولن تنتج حكماً يستحقه البلد» يمكن بتواطؤ خبيث اعتبار أدونيس مفكر النظام، إذ بعد هذا الكلام صمد الشعب السوري سبعة أشهر من المقاومة السلمية في وجه آلة القتل الأسدية، كما أن النظام بنى على هذه الفكرة «الجهنمية» استراتيجيته في قمع الشعب السوري. طبعا تناسى أدونيس قصيدته الشهيرة في مديح ثورة الملالي الإيرانية التي لم تخرج من الجامع فقط بل أخرجها رجال دين، اتضح لاحقاً أنهم الأكثر تطرفاً على مستوى العالم، حتى إن أدونيس الذي يساجل اليوم صادق جلال العظم، لم يكتب دفاعاً عن سلمان رشدي الروائي الذي أصدر الخميني فتوى بقتله أينما كان. وهي فتوى لم تكن ضد رشدي بقدر ما كانت ضد الأدب نفسه وضد حرية التفكير وضد العقل الإنساني فعلى الرغم أن رشدي ليس مواطنا إيرانياً أصدر الخميني فتواه في حين أن غلاة السنة لم يكترثوا للأمر وقد كتب في ذلك الحين أن مشايخ الأزهر (نسيت اسمه) أن ما قاله رشدي لا يؤثر علي مسيرة الإسلام التي كل شيء فيها يدحض ما جاء به رشدي في روايته، وأنهم، أي الأزهر لا يرى فيها سوى رواية من نسج الخيال كغيرهمن الروايات، وأنها لا تستأهل مثل هذه الفتوى لأن إصدارها يمثل إهانة للإسلام نفسه الذي هو أرفع من أن ينزلق إلى مثل هذا الحضيض من التعامل مع حرية الإنسان.
دبج أدونيس قصيدة في مديح الملالي وتعامى عن الدفاع عن الأدب حينها، وحين بدأ حراك شعبه تركه وحيداً بحجة أن التكفيريين سيحتلون البلد ولن يكون المستقبل واضحاً، لكن موقف أدونيس من الثورة السورية ليس بريئاً وغير مكترث فقد طرّز بقلمه مقالات ضد هذا الحراك، أي أنه وقف في صف النظام مع أنه كتب رسالة الرئيس السوري ينصحه فيها بتلبية المطالب المحقة التي يطالب بها الشعب، كما لو أنه قال له: إسمع عليك أن تعطيهم القليل لكي تكسبهم، هؤلاء فقراء ومساكين لا يعرفون ما هي الديمقراطية، أعطهم الخبز والأمان واستمر في حكمهم بنفس الطريقة دون أن ينتبه، وهو المثقف العالمي الغارق في التاريخ والتراث، إلى أن ثورات الشعوب لا تنتج سوى بلاد جديدة.
هذا الكلام لا يعفي صادق جلال العظم من النقد إذ على مدى سنوات طويلة عاش كغيره من المثقفين السوريين في حالة خرسٍ تامة حيال ما فعله الأسد الأب وما يفعله الأسد الابن، لم يكترث هؤلاء المثقفون لأنين شعبهم طوال أربعة عقود ناجزة، لكنه، مع ذلك وقف الى جانب الشعب حين قام بضعة شبان في أواخر مراهقتهم، بتحريك مياه البحيرة التي لكثرة ما كانت هادئة طوال عقود اعتقد بعضهم أنها ماتت.
(3)
سعى أدونيس منذ إقامته في الغرب إلى جائزة نوبل عالميته دون هذه الجائزة، لا تعني له شيئاً، لكنه، دائما ما يقع في فخ الموقف. تفترض جائزة نوبل من المرشح لها ليس فقط ثقافة لامعة وشمولية. بل موقفاً أخلاقياً الموقف الأخلاقي أهم بكثير في تقييم المثقف من مقارعته التطرف الإسلامي أو ما يسمى كذلك. الوقوف ضد هذا التطرف لا يمكن أن يعتبر موقفا أخلاقياً، طالما أن المقابل هو التعامي عن شعب يذبح يومياً. يخطئ أدونيس دوماً في قراءة الغرب رغم أنه متمرس جداً في قراءته، ويخطئ حين يعتقد أن هذا الغرب لا يعرف الإسلام وأنه بمجرد نبذه للتطرف يعني أن دخل إلى القلوب والعقول، ربما يدخل إلى قلوب البعض لكن ليس إلى عقولهم بالتأكيد، إذ إن معركة الغرب مع التطرف مهما كان مصدر هذا التطرف هو الحريات العامة والديمقراطية، وفي بلده سوريا اليوم شعب يموت من أجل ذلك وهو بعين زجاجية شبيهة بعين القرصان الذي لا يرى أمامه سوى سلال الذهب.
سبق أدونيس إلى نوبل كثر من كتاب العالم. جميعهم،كان التقييم الأساسي لأعمالهم، اعتبارها ركيزة لتأسيس موقف أخلاقي من الحياة الإنسانية. جاو كسينغجيان، نيبول، يلينيك، هارولد بنتر، باموق، هيرتا مولر، والأخير الصيني مويان. قبلهم كثر أيضاً. خوسيه ساراماغو، ماركيز، نيرودا، سولجنتسين، كامو، فوكنر. كل هؤلاء كتبوا أدباً عظيماً دون شك لكن الأهم مما كتبوه كان موقفهم الأخلاقي من حرية الإنسان وكينونة وجوده. أدونيس شاعر عظيم، وباحث مجتهد، يكاد يكون الوحيد الذي تكبد قراءة التراث العربي بشكل مختلف لكنه سقط أخلاقياً يوم اعتبر أن مراهقي درعا مجموعة تجلب التطرف، فقط لأنهم طالبوا بالحرية وبعدها خرجوا من المسجد.
(4)
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، سكنا في دمشق لعام واحد، حيث التحقت بمدرسة البنين الابتدائية في جوبر، حيث كانت تسكن خالة والدتي.
العام الذي عشته في دمشق صغيراً رسخ في ذاكرتي مشهدين لا يفارقاني مهما حييت. الأول هو رحلة مدرسية تاريخية إلى الفرن الآلي في منطقة حرستا، القريبة من دمشق. وهناك عاينا، أنا وزملائي من الأولاد إنجازات الأب القائد وثورة الثامن من آذار. والثانية مشهداً مقززاً لستة جثثٍ معلقة في ساحة المرجة لسجناء سياسيين.
simnassar@gmail.com