كلّما رحبت بنا الروض قلنا..حلبٌ قصدنا وأنت السبيل * المتنبي
* حدّثت بَيْبلونة¹ ردّ اللهُ غربتَها: كان لي في أيامِ الصّبا صديقةٌ لا يخلو حديثها من ملاحةٍ، وكان لها رحلةٌ في كل صيفٍ إلى حلب، فقلت: وما حلب؟ قالت: دارٌ للعجب! وأطنبت في السردِ والشرح، بما قصر عنه البوحُ واللّوح، فوقعتْ حلبٌ في نفسي، ونويتُ شدّ الرحال إليها في يومٍ أردته لسعدي لا لنحسي!
* وفي تلك الدّيارِ العامرةِ، نسيتُ أيام الخمولِ الغابرةِ، وما زلتُ في شوارع المدينة بين غدوٍ ورواح، أطير بلا جناح، تحلّق بي النفوس والقلوب الصحاح، حتى اشتكتني الدروب لما أبليتُها امتطاءً بين كلّ شروقٍ وغروب، فخجلتُ وتخفّفت، وعن المسرّةِ والمسير توقّفت، فقالت صاحبةٌ لي لما رأت ما اعتراني من نحول، وما صرتُ إليه من ذبول، ليس لك إلا «التيتانيك» فقلت: وما ذاك؟ قالت: دابةٌ من حديد يقال لها حافلة، لخلق الله حاملة، تطوف بك في شوارعِ المدينة، في غير ما أنسٍ وسكينة، فإن ترجّلتِ منها قطعةً واحدة فكوني لله حامدة، قلت مالي ولها! قالت فليس أمامك إلا هذه «العيس»، أو أنيعينَكِ الله على «السرفيس»، وكان ما كان ويا ليته ما كان، فلما نادى المنادي، ودعا إلى الرحيل الحادي، اتخذت في «السرفيس»موضعي، وعرفت أين يكون موقعي، وبدأ القوم بالتوافد وما كنت أسمع سوى:»تزاحموا تراحموا»، دون أن أعرف مصدر الصوت، ولم أجدْه مفيدي بعد الفوت ! وأعلنت توبتي وحانت أوبتي، فما وجدت غير الساق مطيّة، وتعاهدتُها أحسن ما يكون التعاهد فما هو إلا أن غدتْ لي مزيّة، حتى أخطأتني الوصوف، وصرت أعدى من السّلـيك وأسرع من أبي الحروف!
* واشتاقت روحي إلى طلب العلمِ، فذُكرت لي دارٌ تسمى «الكلية التربوية» يقوم عليها شيخ الطريقة الشاشية، شيخٌ عقد العزم والهمّة على تنكيد عيش الأمّة، وأقسم ليسومنّي سوء العذاب، دون خوفٍ من حساب، وصار لزاماً عليّ لأكون شيخةً للكتّاب، أن آتي بالعجب العجاب، فبدأ تجوالي ومسعاي، وجريي وممشاي، وذكروا لي خاناً يسمى «خان الشونة» لعلي أجد فيه سؤلي ومطلبي، وبدأت رحلة البحث عن حصان امرئ القيس، وما أفلح سعيي في العثور على حصانٍ ولافُريس، وكل حانوتي يرسلني إلى جاره، ولقيت في سعيي المكاره، وأوصلتني قدماي إلى «سوق المدينة»، حيث ألقى كلٌ موازينه، ولم أعثر على ضالتي وضاعت مني غايتي، فعدت إلى شيخي مشغولةَ البال أخبره بما آلت إليه الحال، فعبس وبسر ثم أدبر واستكبر، ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك لكان مصيري أشدَّ سواداً من خافية الغراب الأسحم!
* وقضى الله عليّ وعلى حلبٍ بالفراق، وما زلت كلما نزع بي الشوق والوجْد، إلى تلك الدار والبلد أقول ما قاله شاعرٌ يقال له ابن الدمينة:
وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا
يملّ وأن النأي يشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أنّ قربَ الدار خيرٌ من البعدِ
فهل إلى حلب من سبيل، غير أني أعلم أن كثيراً من سؤالنا اشتياقٌ وكثيراً من ردّه تعليل، فمتى ؟!!
(1) بيبلونة: شخصية هاربة من جحيم طيور الرخ التي تنفث النيران إلى عوالم من ورق وكلمات..