دائماً ما تكون القضايا الفكرية المعاصرة محل نقاش مستمر وحوار علمي متشعب، لأنها لا تقف عند معلومات محددة أو تنتهي إلى حقائق محسومة، إنما تخضع في أغلبها إلى رؤى متباينة وتصورات شخصية تعتمد بشكل كبير على خلفيات معرفية
أو مدارس ثقافية مختلفة بالنسبة للمتحاورين في تلك القضايا، خاصةًً إذا كانت لا تزال تتشكل على أرض الواقع ويحدث لها تحولات. لهذا أزعم أن فكرة (الليبرالية الإسلامية) التي ناقشها الدكتور عبد الرحمن الحبيب في عدد الجزيرة الصادر يوم الاثنين 17 يونيه 2013م تحت عنوان: (من هو الليبرالي الإسلامي؟) هي من أكثر القضايا الفكرية إثارة للجدل بحكم التعاطي مع مصطلح الليبرالية، وضبابية المفاهيم المرتبطة بهذا المصطلح الغربي، من حيث النشأة التاريخية والتعريف اللغوي والمضامين الفكرية.
لكن ما يُميز مناقشة الدكتور الحبيب للقضايا المعاصرة التي يطرحها أو المسائل الفكرية التي يبحثها، أنه عادةً ما يتناولها بكل أبعادها كي تتضح الصورة للمتلقي، كما يعمل على ربط ذلك بأرض الواقع فلا يكون حديثه نظرياً، بما يفتح نوافذ الحوار مشرعة لمعارضيه قبل مؤيديه، ويجعل للنقاش فائدة علمية والحوار متعة فكرية وإن لم تتفق معه، لأن المهم بالحوارات عموماً أن تطرح فكرتك وتكشف قناعاتك بحثاً عن نقاط مشتركة مع الطرف الآخر، وله أن يقبلها أو يرفضها أو على الأقل يتأمل فيها ويبحثها، لهذا أجد الفرصة متاحة للنقاش مع الدكتور الحبيب في مقاله المشار إليه، خاصةً أنه جعل مفهوم (الليبرالية الإسلامية) متأرجحاً بين فريق يؤيده وآخر يعارضه، وكوني من الفريق الآخر أضع توضيحي وهو لب نقاشي مع الدكتور الحبيب، الذي يرى أن هذه الليبرالية ربما تكون حالة اندماج بين الأضداد السياسية، أي بين الليبرالية والإسلامية، وأن تصدّر الأحزاب الإسلامية للانتخابات في أكثر من بلد عربي يعني قبولها بالنظام الديمقراطي الليبرالي والتعددية الحزبية وتداول السلطة؛ متسائلاً ماذا بقي من أصوليتها؟ ثم يجيب: يمكن القول إنها تتحول إلى الليبرالية سياسياً ولكنها تحافظ على سلفيتها الثقافية والاجتماعية؛ ويضيف: أي أنها في طور التحول إلى أحزاب مدنية محافظة على غرار حزب العدالة والتنمية في تركيا. وفي سياق ذلك يقول ما نصه: (فما هي الليبرالية الإسلامية؟ على الرغم من أنها ليست تياراً واحداً بل أطياف وحركات متفاوتة ومفكرون متفرقون، إنما يمكن وضع المنطلقات الأساسية لها. بعد المنطلق الديني وهو الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام، كالعقيدة الإسلامية وأركان الإسلام؛ فتلك الحركات ترى أن الإسلام يتبنى القيم الليبرالية العامة كالحرية (الرأي والتعبير والاعتقاد) واستقلالية الفرد والمساواة بين البشر وحقوق الإنسان؛ مركزة في تفسيرها للنصوص الدينية على هذه القيم. وهي تدعو للتفريق بين آراء الفقهاء وبين الإسلام، وإعادة تفسير النصوص الدينية وفقاً لظروف الزمان والمكان وعدم الاقتصار على التفسيرات القديمة. واختلافهم مع الأصوليين هو في تفسير القيم الإسلامية الأساسية للحياة الحديثة بشكل عام وللسياسة على وجه الخصوص).
قبل مناقشة ما افترضه الدكتور عبد الرحمن في جزئية حديثه حول (الليبرالية الإسلامية) أشير أولاً إلى وجهة نظر المعترضين على مفهوم هذه الليبرالية، التي ذكرها الحبيب، سواءً كان المعترضون من الليبراليين الذين يتبنون مضمون هذا المفهوم ولكنهم يرفضون مصطلحه، كونهم يرون صوابه هو (الليبرالي المسلم)، لأن لفظ (المسلم) يعود على الإنسان الذي يدين بالإسلام وإن كان ليبرالياً، بينما (الإسلامي) يعود على الأصولي ، والأصولي لا يجتمع مع الليبرالي في رؤية سياسية واحدة. أو كان المعترضون من الإسلاميين أو الشرعيين الذين لا يقفون عند إشكالية المصطلح، إنما اعتراضهم راجع إلى ثلاث مسائل، الأولى الجور على مصادر التشريع في الإسلام، والثانية اعتبار أي خلاف بين الفقهاء دلالة على عدم وجود حكم فقهي محدد في المسألة محل الخلاف، والثالثة هو استبدال منظومة القيم الإسلامية بمنظومة القيم العالمية، أي تحقيق القيم العالمية للإسلام، وليس القيم العليا للإسلام.
المتمعن في كتابة الدكتور عبد الرحمن الحبيب عن (الليبرالية الإسلامية) يجد أنها ليست مجرد فكرة يطرحها أو مسألة يبحثها، إنما موقف فكري يعكس قناعة شخصية بأن المسلم يمكن أن يكون ليبرالياً، وهذا ما عبّر عنه في أكثر من موضع سواءً في مقالاته الصحافية ـ والمقال المشار إليه منها ـ أو مشاركاته التلفزيونية التي تناولت قضية الليبرالية السعودية كحواره في برنامج (إضاءات)، الذي عرض على قناة (العربية) قبل سنوات. هذا الموقف الفكري ليس نقطة خلافي مع الحبيب، لأنه تلقائياً منضو تحت خلافي الرئيس معه حول تصوره عن (الليبرالية الإسلامية)، بمفهومها الجامع بين المنطلق الديني وتبني القيم الليبرالية، أو بواقعها المتمثل بالأطياف والحركات والمفكرين حسب رأيه. على الرغم من أن الواقع لا يبرهن على وجود حقيقي لهذه الليبرالية، فمن يتبناها مجرد مجموعة من المثقفين لا يشكلون طيفاً فضلاً عن أن يشكلوا حركة اجتماعية أو أن يكونوا مفكرين. أما إذا كان الدكتور الحبيب يعتبر كل من يرى أن الإسلام يتبنى القيم الليبرالية العامة كالحريات واستقلالية الفرد والمساواة وحقوق الإنسان؛ ويفسر النصوص الدينية على هذه القيم. ويفرق بين آراء الفقهاء وبين الإسلام، ويعيد تفسير النصوص الدينية وفقاً لظروف الزمان والمكان ويختلف مع الأصوليين هو في تفسير القيم الإسلامية الأساسية للحياة الحديثة بشكل عام وللسياسة على وجه الخصوص. إذا كان الحبيب يرى من يقوم بذلك هو بالتالي يعبّر عن (الليبرالية الإسلامية) فقد وقع في خطأين رئيسين، الأول أنه اعتبر الحرية والمساواة وحقوق الإنسان واستقلالية الفرد وغيرها قيماً ليبرالية وهي في الأساس (قيماً إنسانية) تشترك فيها جميع الثقافات والأديان بما فيها الإسلام الذي أكدها نظرياً وطبقها المسلمون عملياً. والخطأ الآخر أنه اعتبر الممارسات الفكرية كتفسير النصوص الدينية لتأكيد القيم الإنسانية، أو إعادة تفسيرها للواقع المعاصر مع التفريق بين آراء الفقهاء وبين الإسلام، والاختلاف مع الفقهاء الأصوليين، أنها أيضاً تعبّر عن (الليبرالية الإسلامية) وهذا غير صحيح، إنما تعبر عن ما يسمى الإسلاميين العصرانيين أو العقلانيين، بمعنى أنها ممارسات داخل التيار الإسلامي (الديني) وبين أطيافه من سلفية وإخوانية وعصرانية وجهادية وغيرها، وليست ذات صلة بالليبراليين، لأن الليبرالية الحقيقية بفلسفتها الغربية تتجاوز النصوص الدينية ولا تعتبرهارجعية للقيم الإنسانية أصلاً، فضلاً عن أن تكون مرجعية للتشريع الذي ينظم حياة الناس في مجالاتهم الدنيوية، وهنا مكمن الخلل في مفهوم (الليبرالية الإسلامية)، لأن تحديد مفهوم هذه الليبرالية الذي قال به الحبيب إنه المنطلق الديني من الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام، كالعقيدة الإسلامية وأركان الإسلام مع تبني القيم الليبرالية، هو مفهوم مختل منطقياً ومنقوض فكرياً من ثلاث جهات، الأولى أن الإسلام لا يتبنى القيم الليبرالية العامة ـ كما يرى الدكتور عبد الرحمن ـ إنما يتفق مع الليبرالية ومع الأديان والثقافات في الدعوة لتحقيق القيم الإنسانية كالحرية والمساواة والاستقلالية الفردية وغيرها لأنها (مشترك إنساني)، والثانية أن الإسلام ليس ديناً فحسب (عقيدة وعبادة فقط) إنما منهاج حياة شامل (شريعة)، والغريب أن الدكتور الحبيب أشار لذلك دون أن يدري ربما عندما قال: (الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام)، ومعروف أن من أهم هذه المبادئ هي الاحتكام للشريعة الإسلامية من خلال نصوص الوحي (القرآن والسنة).
أما الثالثة فهي تعارض الإسلام والليبرالية، من حيث مرجعية التشريع، ونسبية المعرفة، والحالة التاريخية، فالليبرالية لا تؤمن بالحقائق المطلقة والإسلام فيه حقائق مطلقة، كما أن التاريخ الغربي يشهد بأن الليبرالية الغربية نشأت في بيئة رافضة للدين، وبالتالي فإن سؤال الحبيب: من هو الليبرالي الإسلامي؟ الذي جعله عنواناً لمقاله. جوابه: هو وهمّ.
moh.alkanaan555@gmail.comتويتر @moh_alkanaan