من الصعوبة أن يحاول المرء النظر لمشهد مألوف من زاوية مختلفة ، مع ذلك حاولت أن أكون في ذلك الموقع عندما ذهبت لاستقبال أو استلام إن صح التعبير العاملة المنزلية الجديدة، وشاهدت ربما لأول مرة منظرا مختلفا ومخالفا لطبيعة المجتمعات الأخرى في العصر الحديث، بل أقرب منه إلى القرون الوسطى، ويتكون من رجال سعوديين تبدو عليهم السمنة والتقدم في السن، ينتظرون خروج عاملاتهم المنزلية من قسم استلام العاملات المنزلية في المطار..
ظهرت النسوة المستقدمات من بلاد أفريقية وآسيوية هزيلات في أبدانهن، وبدت عليهن آثار الحياة القاسية بسبب الجوع والإرهاق والشقاء في حياتهن اليومية، وما أن يستلم الكفيل السعودي جواز سفر العاملة من الموظف المسؤول حتى يدير ظهره لها، بدون مصافحة أو كلمة ترحيب، ثم تتبعه العاملة بخطوات مرتبكة ومتسارعه إلى سيارته.
لا يختلف ذلك المشهد عن الطوابير الطويلة في المطار، والتي تتكون في الغالب من العماله الأجنبيه المستقدمه للعمل في المجتمع في مختلف نواحي الحياة، ويأتي في مقدمتها قيادة سيارات العائلة، للقيام بتوصيل النساء والأطفال والخدمات للعمل والمدرسة والمنزل، ومنها تلك العمالة الأجنبية التي تنتشر في المزارع والمنازل والأسواق والورش والمصانع..
بعبارة أخرى تتضح ملامح الصورة التي تتكون من مواطنين سعوديين تعتمد حياتهم اليومية على طبقات عمالية أجنبية تقوم بمختلف المهن في حياتهم العملية، وبالرغم من المحاولات الأخيرة لإدخال المواطن لميدان العمل المهني واليدوي في المجتمع إلا أن تلك المساعي لا زالت تواجه بالمقاومة والممانعة من كثير من فئات المجتمع.
المشهد الأبرز من تلك الزاوية المختلفة أن بعض المواطنين منذ الثمانينات الميلادية أي في زمن الطفرة المادية لم يكن خيارهم الأول في حياتهم هو العمل المهني، فقد فضل بعض منهم في ذلك الزمن أن يعيش وسط تظاهرة كبرى، هدفها الإلتحاق بالحلقات الدينية والجهاد في أفغانستان، والذي شهدت أراضيه مشاركة فعالة من المواطنين السعوديين، وكان المواطن يعاني الأمرين في كثير من الأحيان من أجل الوصول إلى الأرض الموعودة من أجل القتال في سبيل الله..
كان يقود الحراك الجهادي في ذلك الوقت فعاليات رسمية ودعوية، وكان الغرض منها إيقاف المد الشيوعي باتجاه المياه الدافئة في الخليج العربي في حراك أشبه بالحنين والإحياء للنزعه الجهادية في صدر الإسلام، وكانت فئات من المجتمع قد أبدت استعداداً فوضوياً للقتال الديني في حركة تمرد ديني، مما جعل من تلك النزعة الجهادية عند البعض خياراً إستراتيجياً في فصول معركة الغرب مع الشيوعيين!.
ازدادت أعداد المجاهدين بعد حرب الخليج الثالثة ، وكان التحريض على خيار الجهاد من قبل الدعاة يجد صدى وقبولاً من المواطنين، لتبدأ الهجرة الثانية ، ولكن بدون غطاء رسمي، وكانت الخسارة الوطنية كبيرة في العراق بعد أن قٌتل كثير منهم في حروبهم ضد المجهول في العراق، وتم تداول روايات من أقرباء للمقتولين في العراق يحكون قصة الدعوة للجهاد من قبل بعض المشائخ، كان نجومها بعض الدعاة المعروفين منذ أيام الصحوة، وكانوا ينطلقون في حراكهم الجهادي من أصول شرعية، وأن الجهاد ذروة سنام الإسلام.
الحقيقة التي لا تقبل جدالا في ذلك التوجه الشرعي اللا محدود أن الجهاد بالفعل هو ذروة سنام الدين..، وأن ثقافة العمل المهني واليدوي والإنجاز الإنساني لم تكن الخيار الأول في الحياة للإنسان المسلم في ذلك الزمن ، فقد كان الجهاد مصدر العزة والسلطة في الأزمنه الأولى، ولم يكن للعمل دور رئيسي في حياة المسلمين، وكان ذلك متروكاً للقاعدين عن الجهاد وللعبيد والجواري..
كان المسلمون يهاجرون إلى مختلف الأمصار من أجل القتال في سبيل الله، ثم العوده بالغنائم سالمين إلى ديارهم، ولم يكن لخيار العمل دور في حياتهم إلا في عصور الجوع والإنحطاط والهزيمة، والتي يضطر فيها المسلم للعودة إلى موطنه للعمل والكسب إلى أن يحن خيار الجهاد في زمن مجد جديد، ولو واجهنا هذه الحقيقة بتجرد من الفخر والكبرياء، لربما وضعنا الحلول التي تعيد ترتيب الأولويات في حياة المسلم من جديد بدلاً من إعادة إنتاجها بنفس المصطلحات بعد أكثر من ألف عام..، ولأدركنا على وجه التحديد؛ منْ نحن!، وإلى أي عصر ننتمي؟، وماذا نريد؟