- تبقى الحرب سجالاً بين (البيروقراطية) ومنتقديها من خارج أسوار الإدارة وداخلها، منهم، من (يهجوها) هجواً قاسياً يخرجها عن السياق الذي وجدت من أجله، وكأنها شر مستطير لا يبقي ولا يذر، ومنهم من يحلل ويعلل عيوبها بحسّ علمي ومزاج واقعي، محيلاً كثيراً من تلك العيوب إلى (البشر) وهم فئتان: فئة (المستهلكين) لها، وفئة من يتولون ترتيبها وإخراجها اجتهاداً على نحو أو آخر قد يخل احياناً بمهمتها، ويزل عن النهج المراد من ضرورة بقائها. وفي هذا قول طويل قد يخرج هذا الحديث عن نسق هذه الزاوية.
**
- وفي هذا السياق، سألني ذات مرة سائل من الوسط الصحفي، عمّن (أبقى على البيروقراطية في العمل الإداري لدينا)، وقد اعتبرت هذا السؤال مجحفاً وكأن صاحبه يتمنى (اجتثاث البيروقراطية) من جذورها في التركيبة الإدارية، كي تصلح الإدارة، ويحسن أداؤها!
**
- وقد تعاملت مع ذلك السؤال بما يلي:
- قلت: إن هذا السؤال يوحي وكأن (البيروقراطية) شر يجب اجتنابه أو منكر ينبغي النهي عنه، وهي ليست هذا ولا ذاك، بل هي جزء لا يتجزأ من أيّ عملية إدارية في القطاع الحكومي أو الأهلي، وأعني بذلك مجموعة الإجراءات والضوابط والشروط المقنِّنة لخدمة أي مرفق، وبدونها تحل الفوضى، ويسود العبث!
**
- لكنّ للبيروقراطية وجهاً آخر تتشكّل منه السلبية التي يشكو منها الناس، وهي من صنع الممارسين للأداء حين ينتهجون الغلوَّ في بعض الأساليب والإجراءات والشروط والضوابط بما يفوقُ الحاجةَ للتطبيق السويّ، ولينعكس هذا سلباً على (مستهلك) الخدمة، فيتحمل في سبيل إنجازها ما لا يطيق وقتاً وجهداً، ومن ثم، تُحمّل البيروقراطية إصْراً هي في الأصل منه براء، وتغدُو شكلاً من أشكال السلوك الإنساني حين ينحرف عن مساره السوي في اتجاه لا يخدم الناس، وتصبح الإدارة في ظله غاية لا وسيلة، وعبئاً لا سنداً!
**
- إذاً، فالبيروقراطية، بشقها الإيجابي باقية، ويجب أن تبقى أمّا سلبياتها.. فالبشر هم الذين يفسدون غاياتها وهم الذين يصلحونها بتبني (ثقافة إدارية) توزن بميزان العقل والحكمة، فلا تظلم ولا تظل، ويستوي في ذلك الجمهور من جهة، و(منظرو) البيروقراطية وصانعوها سواء!
**
- هنا، يتسلل السؤال التالي:
- ما الحل؟ أقول: إن جزءاً من الحل يكمن في إعادة ترتيب (البيت الإداري) وهو جهد لا يتحقق بين يوم وليلة، لكن متى وُجِدَ العزم مقترناً بالبصيرة، والرغبة الصريحة في التغيير نحو الأفضل، وتلك هي بداية النهاية السعيدة التي ننشدها جميعاً. وهناك من الظواهر والمؤشرات ما يدل على أننا الآن نسير في ذلك الاتجاه، وإن طال الأجل!
**
- وأذكّر قبل الختام بأنّ البيروقراطية في مبتدأها وخبرها، وجدت لتبقى، وبدونها تتعطل المسيرة الإدارية أما العلاج (لسوءاتها) متى وجدت بأي حجم أو شكل فلن يتحقق بدون (إصلاح) البشر المتعاملين معها، و(تصحيح) ثقافة الجمهور المستهلك لها كي يدرك أنها تخدمه ولا تهدم مصلحته في السياق الأخير.