على ضفاف النيل ترقد تلك القرية الساحرة، التي ترحب بكل آت إليها وتغري بالإقامة أي قادم يقصدها، وتفتح ذراعيها مرحبة بكل زائر يأتيها. من النساء اللائي جئنها وطاب لهن المقام فيها “حبوبة” العازة القادمة من إقليم بعيد. كانت “حبوبة” العازة في كامل شبابها وعنفوان قوتها وكانت تفيض نشاطا وحيوية.
استأجرت “حبوبة” العازة بيتاً قصيا في طرف القرية أصبح فيما بعد قبلة لأصحاب المزاج والكيف. تلمح في هذا البيت الذي يمور بالحركة وجوه مختلفة وأعمار متباينة وأمزجة متنوعة. كانت “حبوبة” العازة تتعامل بمهارة مع هؤلاء القوم وتبذل كل ما في وسعها لإرضائهم وتلبية طلباتهم.
تصاعد أدخنة رائحة الشواء الممزوجة برائحة “الشراب”، تغري ضعاف النفوس والإيمان بمشاركة هؤلاء القوم لذتهم الزائفة وسعادتهم الوهمية. كان هؤلاء القوم يجلسون في مجموعات “ كيمان كيمان” بشكل دائري يتوسطهم سطل “دلق المريسة” وموقد الشواء، وتراهم دائماً في حالة طرب وانتشاء.
مع مرور الزمن، تحول بيت “حبوبة” العازة الذي كان كخلية النحل في النشاط والحركة إلى بيت خاو خرب كأن لم تكن به حياة من قبل بعد أن تابت حبوبة العازة وتركت صنعتها. تفرق الصحاب وانفض السامر وأصبحت “حبوبة” العازة تشكو من الوحدة وتعاني من الأمراض، إذ أصابها الكبر وبلغت أرذل العمر وعادت طفلة كعهدها الأول.
في مثل هذه الظروف التي يكون الإنسان أحوج ما يكون فيها للولد ‘سخر الله لها امرأة صالحة تحنو عليها وتؤويها، وقيض لها امرأة محسنة أخرى جبلت على حب الضعفاء والمساكين عملت على رعايتها والإهتمام بها، فكانت تقوم بإطعامها وسقائها وتنظيفها والإعتناء بنظافة بيتها، فكانت في فصل الشتاء تقوم بإحكام إغلاق نوافذ غرفتها وحشي الفرجات حتى لا يتسرب الهواء البارد إلى داخلها، وكانت تداوم على دهن وتدليك جسمها بزيت السمسم ورأسها بالدهن المعطر”الودك”.
ذات مرة ذهبت المرأة المحسنة للدكان “البقالة” لشراء بعض الأغراض، وفي الطريق تذكرت حبوبة العازة وكان الوقت ضحى، فاشترت خبزاً وفولاً ثم ذهبت إلى منزل” حبوبة “ العازة فأطعمتها وسقتها، ثم رجعت إلى الدكان لأخذ أغراضها، ولما فتحت يدها “ المصمومة” لتسديد قيمة أغراضها، اندهشت لما وجدت مع الجنيه الذي كانت تحمله جنيهاً آخرا جديداً ( يضبح)، استغربت وقالت في نفسها متسائلة بلغة دارجة: ((أجي سجم خشمي، الجنيه دا جاني من وين،وأنا أخربني وما عندي غير جنيه واحد!؟)).
طوبى لك أيتها المرأة المحسنة، إن الجنيه الجديد الذي وجدتينه مع جنيهك الواحد، هوعلامة قبول العمل المخلص وتحقيق قول الله تعالى (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) ( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
فهنيئاً لك على هذا الإخلاف الفوري الذي هو إن شاء الله من علامات قبول الأعمال، وما يدخره الله لك في الآخرة خير وأبقى.
في الإخلاص قبول الأعمال والنية الصادقة المخلصة مفتاح القبول.