في الوقت الحاضر، تغدو بعثات صندوق النقد الدولي وتروح في الشرق الأوسط دون التوصل إلى أي اتفاق. وفي هذه الأثناء، أصبحت بلدان مثل تونس ومصر وليبيا واليمن مستقطبة على نحو متزايد على طول خطوط سياسية واجتماعية وطائفية، الأمر الذي يشكل تهديداً خطيراً لمستقبلها الديمقراطي. وفي ظل الاحتمال الواضح لفشل الدولة في العراق وسوريا، فلم يعد من الممكن أن يتحمل المجتمع الدولي ترف الوقوف موقف المتفرج بعد الآن.
إن العالم يحتاج على وجه السرعة إلى إنشاء آلية سياسية لمساعدة هذه البلدان في الإفلات من هذا المستنقع الذي تنزلق إليه الآن. وفي غياب الدعم الكافي، فإن الانتفاضات الشعبية من أجل الحرية والعدالة والكرامة في هذه البلدان سوف تنتهي إلى الفوضى، وانعدام الأمن، والانهيار الاقتصادي.
خلافاً للدعم الذي قدمه المجتمع الأوروبي لأوروبا الشرقية بعد سقوط سور برلين، فإن مأساة العالم العربي تكمن في غياب أي خطة عمل مفيدة للإصلاح المؤسسي والموارد اللازمة لتنفيذها. والواقع أن شراكة دوفيل التي أطلقت في إطار قمة الثماني في عام 2011 لم تكن مبادرة ناضجة وقد تجاوزتها الأحداث منذ فترة طويلة. إن احتياجات المنطقة المالية تتجاوز بمسافة بعيدة ما قد يتمكن اتفاق دوفيل من توفيره. والأمر الأكثر أهمية هو أن الدعم يجب ألا يكون مالياً فقط، فالحاجة ملحة أيضاً إلى الدعم السياسي. ومن ناحية أخرى فإن الإصلاحات الاقتصادية من الممكن أن تنتظر.
كما هي الحال في أي وضع بعد ثورة، فإن التحولات الجارية تتم في إطار عملية بالغة التعقيد. ففراغ السلطة يمتص كل القوى السياسية ويخلق الحوافز لدى كل طرف إلى فرض هيمنته بأي ثمن. ونتيجة لهذا، غاب الحد الأدنى من الإجماع اللازم لتأسيس القواعد الكفيلة بتنظيم التحولات السياسية في هذه البلدان.
ففي مصر، تبنى الإخوان المسلمون سياسات غير شاملة ــ والتي انعكست على سبيل المثال في الطريقة التي تم بها الانتهاء من وضع الدستور الجديد. وتظل المعارضة منقسمة وغير فعّالة. و»الشارع» يغلي ويتحول إلى التطرف على نحو متزايد، مع ارتفاع مستويات العنف ضد المرأة، والأقليات، والساسة. وفي الوقت نفسه، أصبح الاقتصاد على وشك الانهيار.
وتونس أيضاً تواجه استقطاباً عميقا. لعل حزب النهضة الإسلامي الحاكم كان ذات يوم ملتزماً بالاعتدال، ولكنه استسلم بالتدريج لإرادة جناحه الراديكالي المتطرف وبدأ في تضييق مساحة المعارضة السياسية. وكما هي الحال في مصر، فإن المرحلة الانتقالية التي طال أمدها معرضة لخطر التداعي تحت وطأة العنف السياسي المتصاعد والتدهور الاجتماعي والاقتصادي.
والوضع يبعث على القلق بنفس القدر في اليمن وليبيا. فرغم أن التعرض لآلام قصيرة الأمد أمر مألوف في أعقاب نهاية الأنظمة الاستبدادية، فإن فترات الانتقال الطويلة والمعقدة قد تكون باهظة التكاليف، وهي التكاليف التي قد تحتاج المجتمعات إلى عقود من الزمان قبل أن تتعافى منها. إن الجمود السياسي لا يعمل فقط على إحباط الاقتصادات من خلال تثبيط التجارة والاستثمار؛ بل إنه يتسبب أيضاً في منع تشكيل الحكومات القادرة على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية المطلوبة بشدة - وبالتالي يهدد بدفع هذه البلدان إلى منحدر زلق عميق.
الآن ليس الوقت المناسب للبدء على مسار الإصلاح الاقتصادي. فبالرغم من أهميته الشديدة، فإن الإصلاح الاقتصادي مثير للجدال إلى حد كبير، ومن شأنه أن يسفر عن فائزين وخاسرين - فيعمل بالتالي على توليد ضغوط اجتماعية وسياسية من المستحيل إدارتها في غياب الآليات القادرة على توجيه المصالح والمطالب المختلفة والتوفيق بينها.
وكان من الواجب قبل فترة طويلة أن يسارع المجتمع الدولي - بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ودول مجلس التعاون الخليجي، ومجموعة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) - إلى جمع الموارد اللازمة لمنح هذه البلدان الحيز المالي الكافي لتلبية احتياجات شعوبها الفورية. فإذا كان من الممكن إيجاد 250 مليار يورو (325 مليار دولار أميركي) لإنقاذ اليونان، فمن المؤكد أنه ليس بالكثير أن نطلب من المجتمع الدولي أن يوجد 100 مليار يورو لضمان نجاح التحول الديمقراطي في البلدان التي تبدأ في ظل مستويات منخفضة من الديون الخارجية.
ولكن في حين ينبغي للدعم أن يكون سخيا، فإن الانضباط أيضاً مطلوب. وفي المقام الأول من الأهمية، لا ينبغي أبداً السماح بمثل هذه السياسات الشعبوية التي تشجع الأطراف التي تمسك بزمام السلطة حالياً في هذه البلدان، ويتعين على المجتمع الدولي أن ينطق بالحقيقة حتى يتسنى للحملات الانتخابية أن ترسم صورة معقولة للواقع.
وسوف تتلخص المهمة الأكثر أهمية في خلق نمط جديد من الشروط السياسية. فلابد من حث اللاعبين على الساحة السياسية على الموافقة على القواعد المنظمة لكيفية التنافس على السلطة. ومن دون الانحياز إلى أي من الأطراف، يتعين على المجتمع الدولي أن يشجع الاعتدال وأن يساعد صناع السياسات، والمجتمع المدني، والساسة، في التوصل إلى التوافق.
ومن الأهمية بمكان أن يتم ربط حزمة الإنقاذ بعملية محددة زمنياً من الانتقال السياسي تشتمل على قواعد متفق عليها على نطاق واسع ــ الدستور، والقانون الانتخابي، وقانون تمويل الحملات الانتخابية، وجدول زمني للانتخابات. ولتجنب إعطاء ميزة غير مستحقة للأحزاب السياسية القائمة، فلابد أن يكون تأسيس صندوق للتمويل السياسي جزءاً من الصفقة الجديدة.
إن الحزمة المالية المشروطة بالاتفاقات السياسية قد تبدو طموحة، ولكن هناك العديد من السوابق، بما في ذلك حزم ما بعد الصراع التي تم الاتفاق عليها في السودان، وليبيريا، وسيراليون.
إذا أعينت هذه الدول على المرور بمرحلة الانتقال الآن، فإن الإصلاحات الاقتصادية الحاسمة التي سوف تشغل الحكومات المنتخبة لسنوات قادمة سوف تحظى بفرصة أعظم كثيراً للنجاح. ولا شك أن أجندة الإصلاح سوف تحدد وفقاً للحاجة إلى جعل الأسواق أكثر تنافسية، وإضفاء الطابع الديمقراطي على الائتمان، وتقديم سياسة ضريبية أكثر تصاعدية، وتحسين جودة ونطاق الخدمات العامة، والتصدي للفساد الواسع النطاق والبسيط.
إنه لمن مصلحة المجتمع الدولي، وخاصة الغرب، أن يبادر إلى دعم القيم العالمية التي يعتز بها ــ وهي نفس القيم التي يعتنقها اليوم الملايين من جيران أوروبا. فلعقود من الزمان ظل الغرب يمنح دعمه لأنظمة عربية مستبدة، لأسباب تعود إلى السياسة الواقعية غالبا. والآن، وبعد طول انتظار، سنحت الفرصة للغرب - من خلال تقديم الدعم الملموس والسخي للتحول السياسي - لإيجاد التوازن بين قيمه ومصالحه.
محاضر السياسة العامة في كلية كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ومدير أفريقيا والشرق الأوسط في مركز التنمية الدولية. هادي العربي المدير الأسبق للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي.
؛ هادي العربي - كمبريدج -
الجزيرة (خاص)
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.
Ishac_Diwan
www.project-syndicate.org