قراءة عابرة لتاريخ المملكة العربية السعودية المعاصر، توضح بجلاء أن من أعظم أهداف الملك المؤسس، عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، هو تأمين الحرمين الشريفين، وتهيئة بيت الله الحرام لضيوف الرحمن من حجاج وزوار ومعتمرين، عملاً بقول الله تعالى: َعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .
ومن أهم مظاهر عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين: العمل على توسعتهما, وزيادة مساحتهما، ورفع قدرة استيعابهما؛ ليؤدي الحجاج والمعتمرون والزوار مناسكهم في يسر وطمأنينة، وفي أجواء ميسرة من التكييف، والفرش، ووفره المياه، وغير ذلك.
وقد شهد الحرمان الشريفان، والمشاعر المقدسة -منذ تأسيس المملكة العربية السعودية- توسعات لم يشهد التاريخ الإسلامي نظيراً لها؛ وليس المقام مقام تفصيل لذلك، فهو يحتاج إلى بحث مستقل. لكننا سنقف وقفة موجزة مع مشروعي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه- لتوسعة الساحات الشمالية والمطاف، وهما المشروعان اللذان يعدان أكبر مشروع توسعة في تاريخ الحرم المكي.
أولاً: توسعة المساحات الشمالية
يتوقع أن يبلغ مجموع المساحة الكلية للساحات الشمالية بعد التوسعة 709.460 متراً مربعاً، شاملة مبنى التوسعة والساحات، والجسور، والمصاطب.. ويتوقع القائمون على التوسعة أن يصل حجم المساحة المبنية لمبنى الخدمات المصاطب إلى 321.400 متر مربع، كما توقعوا أن يصل إجمالي المساحة الكلية لساحات التوسعة التي تحتضنها
جسور مبنى التوسعة إلى 68.750 متراً مربعاً. أما المساحات المبنية للجسور فمن المتوقع أن يبلغ حجمها 56.660 متراً مربعاً. وستكون التوسعة في تسعة أدوار، وتشتمل على 54 بوابة، كما ستشتمل على 16 جسراً لتوزيع الحشود، ومنع الازدحام، إضافة إلى تسع مظلات من الحجم الكبير, وثماني بطاريات للسلالم الكهربائية، كل بطارية تضم أربعة سلالم كهربائية.
وسيجري العمل على إضافة حمامات، ومواضئ تحت الساحات الجديدة تتناسب مع الأعداد المتوقعة للمصلين، وزائري المسجد الحرام، تتكون من 16 مجمعاً، تضم 2.400 حمام.. ويتضمن المشروع توسعة صحن المطاف بهدم التوسعة العثمانية، وتوسيع الحرم من الجهات الثلاث، وقوفاً عند المسعى؛ لأن المسعى ليس من الحرم، وتوسيع الحرم من جهة أجياد، كما تتم تعلية أدوار الحرم؛ ليصبح أربعة أدوار، مثل المسعى الجديد، تم تعلية دورين مستقبلاً، ليصبح إجمالي التعلية ستة أدوار.. وستبلغ الطاقة الاستيعابية للساحات الشمالية بعد اكتمال التوسعة حوالي 766.600 مصلٍّ. وهي طاقة استيعابية تعادل، أو تزيد على الحرم الحالي، بتوسعاته وساحاته عبر التاريخ.
ثانياً: مشروع توسعة المطاف
تبلغ الطاقة الاستيعابية للمسعى حالياً 48 ألف طائف في الساعة. وبعد التوسعة التي يجري العمل عليها بجهود مضاعفة على مدار الأربع والعشرين ساعة، بمناسبة قرب شهر رمضان المبارك، ستبلغ الطاقة الاستيعابية 150 ألف طائف في الساعة.
ولا يخفى على أي واحد ما تدل عليه الأرقام السابقة من أن الحرم المكي الشريف، والمطاف، يشهدان عملاً يساوي، أو يزيد على كل الأعمال والجهود التي بذلت في خدمتهما عبر التاريخ، وأن النتائج والثمار المرجوة -بإذن الله تعالى- من هذه التوسعة، تساوي، أو تزيد على كل الثمار والنتائج التي أثمرت عنها كل التوسعات السابقة في تاريخ مكة المكرمة.
وإذا كان هذا المشروع العظيم بهذه الضخامة والحجم، فإني أترك للقارئ الكريم أن يتخيل ما هي الجهود والأعمال التي تدور في الحرم الشريف على مدار الساعة بواسطة عشرات الآلات، والمعدات التي صنع بعضها خصيصاً لهذه التوسعة، وبواسطة آلاف من العمال المتخصصين من جميع أنحاء العالم ؟!.
كما أترك له -أيضاً- أن يتصور: كم سيتكلفه هذا المشروع من مليارات الدولارات؟.. وكم ستبلغ ميزانيته المفتوحة للإنفاق عليه؟!.
o والغرض مما تقدم إبراز جانب من الجهود العظيمة، والأموال الطائلة التي تنفقها في سبيل خدمة ضيوف الرحمن، من حجاج ومعتمرين، وزوار؛ أداء للأمانة الضخمة التي حملها إياها رب العالمين، بجعلها راعية المقدسات الإسلامية، وسادنة بيت الله الحرام، لا تريد من ذلك إلا رضا الله -عز وجل- ولا تريد من أي دولة أن تساعدها بشيء؛ لأنها قادرة -والحمد لله- على أداء الرسالة على الوجه الكامل، بعون الله.
ولكن المأمول من الدول الإسلامية أن تتعاون مع المملكة العربية السعودية، بتطبيق ما تدعو إليه مصلحة الجميع، من تقليص عدد الحجاج في المدة التي ستستغرقها أعمال التوسعة، بسبب الأعمال الجارية، وتقلص المساحة المتاحة لاستيعاب الحجاج، لمقتضيات التوسعة من هدم وحفر، ووجود آليات، وعمال وغير ذلك. والقاعدة الكلية الفقهية: الضرورات تبيح المحظورات، والضرر يزال، وفي الحديث: لا ضرر ولا ضرار.
وهو القرار الذي اتخذته المملكة من تقليص عدد حجاج الداخل إلى 50% وحجاج الخارج 20%, وهو قرار استثنائي ومؤقت، بني على أسس فنية وعلمية، وهي أن الأعمال الجارية تقلل من مساحة الحرم ومساحة المسعى، للأسباب التي تقدمت.
كما بني على أسس شرعية -أيضاً- فقد أكد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتي العام للمملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء أن قرار حكومة المملكة تخفيف أعداد الحجاج والمعتمرين لأعوام معدودة أمر ضروري، ولابد من الاستجابة له، وتطبيقه، لأنه يحقق مصلحة الأمة على المدى الطويل.
ولا شك أن هذا الإجراء الحكيم الذي تقتضيه المصلحة العامة، يستوجب من الجميع بذل جهود كبيرة لنشر الوعي بمقاصد هذا القرار، وغاياته النبيلة، حتى لا يفسره أعداء المملكة على أهوائهم المريضة، ويتم ذلك على المستويين الخارجي والمحلي:
- أولاً: على المستوى الخارجي
أن تقوم وزارة الخارجية، ووزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، بمخاطبة الجهات المعنية في الدول الإسلامية بشرح الغرض من هذا القرار، وبيان أهدافه السامية، ومطالبتها بتوعية مواطنيها، وبيان الحقائق في ذلك، والإيعاز إلى السفارات السعودية، والملحقات الدينية، والثقافية، في الخارج بمتابعة ذلك، ونشره في وسائل إعلام تلك الدول المقروءة، والمسموعة، والمرئية.
كما يجب على وزارة الثقافة والإعلام في المملكة الإيعاز إلى القنوات الفضائية التي يملكها سعوديون بأن يولوا هذا الموضوع اهتماماً بالغاً في إعلاناتهم، وبرامجهم الحوارية، وإقامة ندوات، واستضافة مسؤولين من وزارة الحج، ورئاسة المسجد الحرام والمسجد النبوي، ووزارة الشئون الإسلامية، لبيان حقيقة الأعمال الهائلة القائمة في الحرمين الشريفين، لمصلحة الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم، وأن تخفيض عدد الحجاج والمعتمرين إنما هو لمصلحة الحجاج والمعتمرين أنفسهم؛ لما يرجى من نتائج عظيمة لهذه التوسعة الفريدة من نوعها.
- ثانياً: على المستوى المحلي
ينبغي إبراز هذا الحدث العظيم، وبيان أغراض قرار تخفيض عدد الحجاج والمعتمرين، من خلال حملة إعلامية توعوية شاملة، تشارك فيها كل الجهات المعنية، ذات التأثير الجماهيري، كوزارة الشئون الإسلامية، من خلال التعميم على الخطباء بتناول هذا الموضوع في خطب الجمعة، وعلى العلماء بالتعرض لهذا في دروسهم العلمية، ومحاضراتهم، ومن خلال وزارة الثقافة و الإعلام من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والمواقع والمنتديات الإخبارية والإسلامية، ومن خلال وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي من خلال الجامعات, وغير ذلك؛ فهذا أقل ما يجب على الجميع تجاه هذا الوطن، وولاة أمره -حفظهم الله- الذين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين بعامة، وفي خدمة المشاعر المقدسة والحرمين الشريفين، وكل ما فيه خدمة حجاج بيت الله الحرام، والمعتمرين والزائرين.
نسأل الله أن يحفظ هذه البلاد الطاهرة، ويجزل لولاتها الأجر والمثوبة على جهودهم الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين، وأن يرزقهم الصحة والعافية. إنه سميع مجيب.
alomari1420@yahoo.com