(24) لقاء طريف مع الجاسوس بريماكوف
أحد أطرف الحوادث التي واجهتها في عملي في دمشق كانت عام 1990، عندما زار صديقي السوفياتي يفغيني بريماكوف دمشق قبيل حرب الخليج الأولى (تحرير الكويت). وكنت قد تعرفت عليه وصادقته خلال عملي في بيروت في الستينيات حيث كان يعمل كصحافي ظاهرياً كغطاء للتعتيم عن عمله الحقيقي كعميل وجاسوس للمخابرات الروسية الـ (كي جي بي) (KGB). وفي السنوات التالية تفجرت عبقرية ومواهب بريماكوف السياسية ووصل إلى أعلى المناصب في الاتحاد السوفياتي بما فيها رئيس الوزراء. وعندما كان عضواً في مجلس الرئاسة السوفياتي الذي يرأسه ميخائيل غورباتشوف، عمل مبعوثاً خاصاً لغورباتشوف في العراق قبل وقوع حرب الخليج الأولى. كان بريماكوف يزور بغداد ليقابل صدام حسين، ثم يزور دمشق بعدها مباشرة للتشاور مع الأسد. وذات مرة، اتفقت معه لكي نتقابل في مقهى شعبي وسط دمشق القديمة، وفور جلوسنا حول طاولة صغيرة، قمنا بطلب قهوة، ثم فوجئنا بمجموعة من الجرسونات يحيطون بنا وهم صامتون ويبدو عليهم الفضول الشديد وكان واضحاً أنهم يحاولون التقاط أي كلمة نقولها وفجأة أشار بريماكوف بيده طالباً منهم الابتعاد قائلاً لهم (نريد بعض الخصوصية)! وعلى الرغم من ذلك، وبعد دقائق وصل الجرسون ومعه القهوة ثم وضع وسط الطاولة مزهرية جميلة وفيها أزهار ملونة رائعة. وبحس بريماكوف الجاسوسي الخبير، نظر إلى الجرسون مبتسماً قائلاً له: (لقد طلبنا قهوة وليس مزهرية بداخلها ميكروفونات، هيا، خذها فوراً!!) أخذ الجرسون المزهرية بخجل ثم هرب فوراً. وبدأنا بالحديث وتبادل الذكريات والأسرار، ثم فجأة قلت له مازحاً: (يفغيني، لقد دربتم السوريين على التجسس جيداً وأكثر من اللازم!). هز رأسه موافقاً وانفجرنا ضاحكين.
(25) حافظ الأسد يتفق مع إسحاق رابين
في نهاية مهمتي كسفير في دمشق، طلب الرئيس الأسد مقابلتي لكي يودعني وجاملني كثيراً قائلا إنه استفاد كثيراً من حواراتي معه. ولكن للأسف دخل كعادته في مونولوغ مع نفسه لنقد سياسة الولايات المتحدة خاصة في محاولة فرض الديمقراطية على دول أخرى بطريقة غير منطقية. ثم بدأ في نقد مفهوم أمريكا لبعض المصطلحات كـ الإرهاب. شعرت بالملل لأني حفظت هذا المونولوغ، وعندها تذكرت أنني املك سلاحاً مهماً في هذه اللحظة لجعله يغير الموضوع ونركز على أهمية مواصلة الحوار البناء، فقلت للأسد: (قبل أن أصل إلى سوريا قابلت إسحاق رابين في واشنطن وقال لي رأيه فيك بصراحة كاملة!) لم يستطع الأسد المقاومة، وقال بفضول شديد وهو يبتسم: (أخبرني كل ما قاله رابين)! قلت له إن رابين وصفك بأنك أصعب قائد عربي من حيث التفاوض، ولكن يمكن الاعتماد عليك والثقة بك تماماً عندما توافق على شيء بخلاف غيرك. وهنا سألت الأسد بمكر وبفضول شديد: (هل هذا صحيح؟) تمهل الأسد قليلاً لوهلة ثم قال مبتسماً: (في هذا الموضوع «فقط» اتفق مع رابين!!)
(26) إسرائيل علمت بوفاة باسل الأسد
قبل إعلانه رسمياً في سوريا
اتصل بي رئيس الوزراء إسحاق رابين صباح 21 كانون الثاني/يناير 1994، وقال لي لدينا معلومات غير موثقة أن باسل الأسد توفي في حادث سيارة صباح اليوم. ثم أضاف: (الرئيس الأسد يحب باسل كثيراً، وإذا تأكدتم من هذه المعلومات، أرجوك أبلغ الرئيس الأسد بصورة سرية تعازيَّ الشخصية له كشأن إنساني بحت). أجبته بأنني قابلت باسل الأسد في دمشق، وكان يحب قيادة السيارات بسرعة كبيرة، ومن المهم معرفة طموحات رفعت الأسد شقيق حافظ وكيف سيكون رد فعله وموقعه بعد وفاة باسل الأسد؟ اتصلت فوراً بسفيرنا في دمشق كريستوفر روس الذي أكد لي صحة تلك المعلومة بنسبة 90 في المئة، وأضاف بثقة أن هناك معلومات أكيدة أن هناك سيارة قد تحطمت عند دخولها إلى المطار في الصباح المبكر ومن المعتقد أن باسل كان داخلها. ثم أكد لي أن الرئيس حافظ الأسد كان من المتوقع أن يقابل وفداً من الكونغرس الأمريكي ذلك الصباح، لكن الوزير فاروق الشرع اتصل بالسفارة الأمريكية ليبلغهم اعتذار الرئيس الأسد بسبب حالة عائلية طارئة. ثم سمعنا من مكبرات الأصوات في المساجد المجاورة للسفارة صوت قراءة القرآن مع رثاء لباسل الأسد. قلت لسفيرنا في دمشق: إذا كان باسل قد توفي حقاً أرجوك أبلغ الرئيس الأسد تعازي رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بصورة شخصية وسرية. ثم علمنا لاحقاً أن باسل كان يقود سيارته بصورة جنونية قيل إنها أكثر من 100 ميل في الساعة أثناء الضباب ليلحق برحلة مبكرة على طيران (لوفتهانزا)، وللأسف اصطدمت السيارة بالرصيف وانقلبت عدة مرات وتحطم رأس باسل وتم نقله إلى مستشفى الأسد حيث جاء والده بسرعة وجلس قرب سرير ابنه منفرداً لبعض الوقت، وعندما خرج الأسد من الغرفة كانت علامات البكاء والنشيج بادية على وجهه.
(27) مفاجأة: نزار قباني في إسرائيل
ذات ليلة ذهبت مع زوجتي لتناول العشاء في منزل شمعون بيريس، وجلسنا بعد الطعام نتناول القهوة في غرفة الجلوس وأثناء الحديث نهض بيريز فجأة وتوجه إلى رفوف الكتب وسحب ديواناً شعرياً مترجماً للعبرية للشاعر السوري العربي الشهير نزار قباني (رحمه الله). وبدأ يقرأ قصيدة تسخر من عملية السلام. أحسست فوراً أنني أمام حدث تاريخي غير طبيعي: فها نحن في منزل أحد كبار زعماء إسرائيل وهو يقرأ لنا شعراً عربياً يناهض الصلح مع إسرائيل (المهرولون). وبعد قراءة بعض الأبيات، وأعتقد أنه كان بدهاء يحاول إقناعي كسفير لأمريكا أن إسرائيل حريصة على الصلح والسلم أكثر من العرب. وكذلك تنفيس إحباطه الأخير لبطء عملية التفاوض مع العرب وأخيراً قال عبارة غامضة: (العرب يحبون التزلج على الكلمات)، ثم ردد بيتاً غزلياً من شعر لقباني.
(28) ساركوزي يصفع كوندوليزا رايس
مستشار الرئيس الفرنسي ساركوزي جان دافيد آفييت وهو صديق قديم أخبرني أن ساركوزي عندما قابل كوندوليزا رايس، ذات مرة، حاورها طويلاً وفي النهاية قالت رايس عبارة دبلوماسية معروفة للمجاملة وهي تهم بالانصراف: (ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟) (What Can I Do For You?). رد ساركوزي عليها بصراحته المعروفة متهكماً: (أرجوكم حسنوا صورتكم في العالم. من المحرج جدا والصعب جداً عندما تكون أقوى دولة في العالم والتي نساندها والتي تعتبر بالضرورة قائدتنا في العالم الحر تعتبر أكبر دولة مكروهة في العالم! هذا الانطباع يسبب مشاكل عظيمة لكم ولحلفائكم!! ولهذا أرجوكم افعلوا أي شيء ممكن لتحسين سمعتكم، هذا ما تستطعين عمله لي يا سيدتي). ثم أضاف بتفاؤل حذر (أعتقد أن هذا ممكن تماماً لأنه على الرغم من كون خزان النوايا الحسنة قد استهلك تماماً، ولكنه لحسن حظكم، لم يجف بعد!).
(29) إسرائيل تجسست على دجرجيان
عندما انتهت مهمتي كسفير في إسرائيل، أقام رئيس الوزراء إسحاق رابين حفل تكريم لي ودعاني مع زوجتي لحضور عشاء من إعداد زوجته (ليا) في منزله في القدس عام 1994. كان جو الحفلة دافئاً وحميماً مع شيء من الجدية. آل رابين كانوا مضيفين رائعين. وحضر وزراء من الحكومة وأكاديميين وكتاب إسرائيليين منهم آموس عوز وبعض أصدقائي في إسرائيل. رابين ألقى كلمة أثرت بي كثيراً. لقد قال إنه مع زوجته ليا يأسفان لمغادرتي إسرائيل بسرعة وأكد أنني بالرغم من قصر عملي كسفير، فعلت الكثير لتقوية العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، وإنه يعتبرني صديقاً شخصياً أكثر من مجرد سفير. وذكر أنه لم يحدث أن عًيّن دبلوماسي أمريكي في إسرائيل بعد عمله كسفير في دمشق. ثم رفع كأسه وحياني شاكراً كل ما قمت به لـ (تثقيفهم عن جيرانهم العرب). لقد قدرت كلمة رابين المؤثرة بعمق وشعرت أنها لخصت رسالتي في الخارجية الأمريكية لمدة ثلاثين سنة لخدمة بلدي والعمل على صنع سلام بين العرب وإسرائيل.
ثم اقترب مني إيهودا باراك، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عندما كنت سفيراً في سوريا، وهمس في أذني: (لقد كنا نتجسس على نشاطاتك كسفير في سوريا منذ وصولك إلى دمشق في عام 1988. لقد خفنا أن تنجح محاولاتك في تحسين العلاقة الأمريكية-السورية على حساب العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية. ثم عندما اكتشفنا أنك تؤثر في حافظ الأسد أكثر من تأثيره عليك، شعرنا بالراحة وبدأنا نعتبر التقارب الأمريكي- السوري كعنصر إيجابي)!
(30) حضور افتتاح فيلم (شيندلرز ليست) في إسرائيل
بدعوة خاصة من رابين، حضرت مع زوجتي فرنسواز الافتتاح الكبير في تل أبيب لفيلم (شيندلرز ليست) Schindler’s List (أي قائمة شيندلر) (طالع هامش المترجم الرقم 1 بعد الفقرة عن فيلم شيندلرز ليست) للمخرج الأمريكي (اليهودي) ستيفن سبيلبيرغ والذي يروي قصة أوسكار شيندلر وهو رجل أعمال ألماني كبير قدم رشى لبعض المسؤولين النازيين ليسمحوا له بتسخير عمال بولنديين يهود ليعملوا في مصانعه في بولندا ومورافيا لينقذهم من الموت في معسكرات الاعتقال النازية (رغم أن هدفه كان اقتصادياً بحتاً حيث عمل هؤلاء العمال مجانا)، ما أدى إلى إنقاد حياة أكثر من 1.000 يهودي كانوا سيرسلون للموت في معسكرات الاعتقال النازية وبخاصة معسكر أوشفيتس. الفيلم قدم تصويراً مرعباً عن (غيتو وراسو) ومعسكر أوشفيتس، وما حدث فيهما من أعمال وحشية. وكان الحضور الكثيف صامتاً تماماً بسبب تأثير تلك المشاهد المرعبة الرهيبة، وكنت مع زوجتي فرنسواز نجلس إلى جانب سبيلبرغ تماماً، ولذلك همست له: أن استقبال الفيلم في تل أبيب وحضور الزعماء الإسرائيليين كان شيئاً أكثر من رائع وأنه يستحق ذلك بجدارة. رئيس الوزراء رابين، رئيس الجمهورية وايزمن والرئيس الأسبق حاييم هيرتزوك وإيهودا باراك وغيرهم كث ير من زعماء إسرائيل حضروا الفيلم مع زوجاتهم وأطفالهم.
شكر سبيلبرغ مجاملتي وقال إن كل شخص يشاهد الفيلم سيمتص الحزن والألم بطريقته الخاصة. وأضاف أن تأثير الفيلم على جمهور ألمانيا كان قوياً جداً. وبعد نهاية الفيلم صافحت سبيلبرغ وهنأته على قوة وتأثير الفيلم. وكذلك حاول رابين تهنئته ولكن الكلمات خانته لأنه كان على وشك البكاء ولم يجد الكلمات المناسبة لإبداء إعجابه. في الحقيقة الكلمات خانت معظم زعماء وقادة إسرائيل الذين كانوا متأثرين جداً عندما هنأوا سبيلبرغ بعد نهاية الفيلم. لقد كانوا مبهورين تماماً بقوة الفيلم وتأثيره الطاغي.