شُكْراً شُكراً لمن دَعَوْا بحرارة إلى تكرمتي قبل أن أرحل إلى الدار الآخرة: من الأحباب الذين كتبوا في الصحافة، ومِمَّن لم أعلم بسعيهم الكريم إلا بعد مُدَّة؛ فهم حفظهم الله مستعجلون، مشفقون أن يأتيهم نَعِيُّ الظاهري قبل أن يفرح بالتكرمة في حياته..
هذه مشاعرهم الكريمة، وأما تفاعلي مع هذه المشاعر الكريمة فهي أوَّلاً الدُّعاءُ لهم، وتجديدُ الدعاء الآن بأن يجمع الله لي ولهم ولكافة إخواني المسلمين سعادة الدارين، وأن يصلح للجميع ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا.. وجِـماعُ ذلك صلاحُ النَّفسِ والمال والأهل والذُّرِّية.. والتفاعلُ الثاني الأملُ الكريم بكل أبعاده، وهو أملٌ يُبْهِج القلب سواء طال العمر أو قَصُر، وهذا من وجوهٍ كثيرة أختمها بالمصارَحة في مناسباتٍ قادمةٍ إن شاء الله تعالى عن عقيدتي التي أرجو الله أن ألقاه عليها بثباتٍ ويقين مبتهلاً إلى ربي أن يُرِيني الحقَّ حقَّاً ويرزقني اتِّباعه، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه.. وما قبل المصارحة بالعقيدة من التفاعل فظاهرُه الدُّعابة، ولكن له جذور راسخة من الحقيقة:
فالتفاعل الأوَّل: أنني لست بالشيخ يدِبُّ دبيباً بالنسبة لعدد السنين، وبالنسبة للمعتاد لجماعتي أهل شقراء؛ فهم بحمد الله مُعَمَّرون.. أدركتُ من آل غيهب مَنْ عمره خمسة وثلاثون عاماً فوق المئة.. وأدركتُ أشياخاً منهم من أناف على مئة عامٍ بعشرين عاماً، وبعشرة أعوام، ويخمسة أعوام، ومَن وَقَف عند الهُـنَيْدَةِ - وهي مئة عام - رحمهم الله جميعاً.. ومنهم الآن أحياء ما فقدوا حواسهم ومدارِكَهم العقلية ناهزوا مئة عام، وكلهم قد شرب مِن ماء (الحُمَيضِيَّة) عبَّاً ونهلاً، واستنشق النسيمَ العليل من أنقاء (باب الطلحة)؛ فستدركني إن شاء الله بركاتُ الله عليهم؛ فأنا شريكهم في (الحُمَيضِيَّة) و(باب الطلحة)؛ فيمنُّ الله عليَّ بما فاتني من عزائم الأمور: بموعظة فكرية قلبية نافعة، ودعوة صالحة، وتلاوة ذات تدبُّرٍ وخشية، ومنفعة أخٍ مسلم بما أقدر عليه ولو بشفاعة حسنة، وبِمِقْوَلٍ صادقٍ فالجٍ يدحض كل مبطل.
والتفاعل الثاني: أنني شِخْتُ جسدياً لا كِبَراً في السِّن من جرَّاء ما أصابني من انفلونزا الخنازير، والوقوعِ في حُفرة بجدة عُمقها عمق دور من أدوار العمارة أو أكثر على أرض صلبة مما أحدث رضوضاً في ظهري، مع دزنطاريا متكيسة منذ أكثر من أربعين عاماً لم أحسن معالجتها في حينها، أو أن الأطباء لم يحسنوا ذلك.. مع سقوط الأسنان، وكثرة العلاجات عليَّ من آثار انسداد في الشرايين منذ عشرين عاماً، ومن صفير في القصبات الهوائية من جَرَّاء ظلمي نفسي، مع إمساك مُزمِن.. وكل ذلك لا أَعُدُّه شيخوخةً، بل هو رحمةٌ من ربي جعلها على قَدْرِ تحمُّلي تكفيراً وتمحيصاً مُسْتَبْشِراً بأن أكون من الآمنين عند الغَرْغرة، وعند المواراةِ في القبر أوَّلِ منازِل الآخرة، ويومَ العرض الأكبر، وأن يظلني ربي تحتَ ظل عرشه، وعند موافاتي الرب الكريم الغفور الودود أن يُخفِّفَ حسابي، ويستر عليَّ قبائحي يوم يقوم الأشهاد، وأن يعفو عن مصارحتي بها سِتراً ورحمةً.. وكلما ازداد خوفي ووجلي بوساوس الشيطان أَلْجمه بأسرعِ من كرَّة الطرف طمأنينةٌ وبشرى أجدها في قلبي، والله المستَعصم؛ فإنَّ قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء، ومصداقُ ذلك قوله تعالى آمراً عباده:{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (8) سورة آل عمران، وعلى هذا جاء دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: “ اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك”.. ولن يخيبَ أبداً مَن طوى قلبه على اليقين بتحقُّقِ وعدِ الله الكريم للداعين اللاجئين إليه غير الغافلين عن أدعية العصمة في الوقت المطلق، وفي أوقات مواسم الدعاء.. وأدعيةُ العصمة مثلُ الآية التي أسلفتها، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتلوها بعد سورة الفاتحة سراً في الصلاة الجهرية في الركعة الثالثة والرابعة إن كان مأموماً (فيما أظنُّ) ووجد فرصة لتلاوتها سراً.. ومن أدعية العصمة: “ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك.. لا أحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك “، و “ اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وأعوذ بك منك.. إلخ “، و” أعوذ بعظمتك أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت.. إلخ “، وكثرة قراءة سورة الفاتحة وِرْداً ورُقْيَة، وتلاوةً في الصلاة المكتوبة والنوافل؛ فهي جامعةٌ أدعيةَ العصمة.. وهكذاية الكرسي وآخر سورة الحشر؛ فإنهما مُثَبِّتتان الإيمان بإذن الله، وهكذا المعوَّذتان فهما الهُزالُ الشديدِ لشياطين الجن والإنس.
والتفاعل الثالث: أن ذاكرتي لم تشخ وإن حصل لها بعض اللبس، ومداركي العقلية لم تشخ وإن حصل لها بعض البُطْءِ في فهم ما استجدَّت لي قراءته.. وإذا عجزتُ عن الكتابة أمليتُ إملاءً، ولكنني عند تصحيح التجربة الأولى والثانية أُوَثِّق ما كتبته بالمراجعة بسهولة، ولا أعدم مَن يعينني بعد الله في إحضار المراجع، أو القيام بالمراجعة.. ووجدتُ في الإنترنت خيراً كثيراً؛ فالمسائل التي كنت أجمع شواردها خلال أكثر من أسبوع بجدٍّ ونشاط تَيَسَّر تذليلُها خلال سويعاتٍ بحمد الله، وتيسَّرت كُبْرياتُ المراجع التي كنا نتمنَّى سابقاً إمتاعَ النظر بتصفُّحِها مخطوطة وحسب، وانتشر التراث الإنساني بسياق من الترجمات التي يُصَحِّح بعضها بعضاً؛ فأصبح الإلمامُ بتراث اللغةِ الثانية التي لا يُجيدها ذو اللغة الواحدة أطوعَ له في الفهم ممن يُجيد اللغة الثانية إن كان جادَّاً قد تعهَّد فكره بالتدريب.
والتفاعل الرابع: أن بعض منافِذَ المتعة والبهجة المحفوفة بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه قد تتعطَّل، ولكنَّ القلبَ يبقى شاباً وامقاً طروباً محظوظاً بذكرياتٍ لذيذة تُطير النعاس وتلحس الهموم.. بل معايشة شريكة الحياة الصالحة التقية نعيمٌ يمتصُّ كلَّ أعباء الشيخوخة وإن طوى كل واحد فراشه عن الآخر.. وقد عهدتُ كثيراً من جماعتي أهل شقراء يشيخ وتشيخ شريكة حياته؛ فيصبحان صديقين بعد أن كانا لباساً واحداً، ولا يمكن أن يُغيِّر فراشَه مهما حمله بنوه على ذلك ما دامت شريكةُ حياته على قيد الحياة.. تلك خِصِّصة فيهم طرأ عليها الآن عدوى الآفاق.. وقصة: “ أمَّا أنتَ بِكَيْفِكَ [أي تزوَّج] وأمَّا أنا فَأَخَسَا “ مشهورة عند جماعتي، ولا أزال وفياً لموروث جماعتي “ أمَّا أنتَ بِكَيْفِكَ “ !!.. فما بالك بإحاطة الذُّرِّيَّة من الولد والحفدة إن صلحوا، ومناغاةِ الأطفال من الحفدة يشاركونك اللقمة على القصعة.. ألا ما أعظمها من نعمةٍ هي حيويةُ الشباب على الحقيقة ونعيمُه !!. والتفاعل الخامس - وهو الأخير -: أن نشاطي الفكري الآن أقوى وأنفع وأكثر مما كنتُ عليه في مَيْعَةِ الشباب وفي الأشدِّ؛ وذلك أنني حذقتُ حذقاً جيداً لا مزيد عليه (بحمد الله غير جاحدٍ أثرَ التراكم الفكري في مراحل عمري) نظريةَ المعرفةِ والعلم من إحصاءِ تجاربي في التعامُلِ مع العقل إدراكاً وتفكيراً من الحسِّ المُكْتسب، ومن القوى الفطرية التي جبل الله العقل عليها: مُخَلِّصاً لها من رُكام الفلسفة وبعض أوشاب علم المنطق وعلم الكلام، مُقِيماً إيَّاها على وقائع المشاهدة وعلى مُسَلَّمات العلوم من اللغة والتوثيق التاريخي.. إلخ، مُخْضِعاً جموحَ العقل إلى استكناه ما لا سبيل إليه من علم الغيب بهداية الشرع الذي هو تنزيل خالق العقل، مُتخلِّصاً من معارف بشرية لا علاقة لها بفهمِ وحي الله على مراد الله كبعض المسائل الفضولية في علم أصول الفقه التي ليست هي من علم السلف، ولا يتوقَّف عليها فهمُ دينِ الله الميسَّر للذكر، ولو توقَّف عليها لانقضت الأعمار قبل الوصول إلى فهم دين الله؛ وبذلك أَصْبَحَتْ المعاييرُ محصورةً في ثلاث قيم، ومدارك العقل محصورةً فيما يقتضي الجزم يقيناً أو رجحاناً، وما يقتضي التوقُّف مع وجود الاحتمال بلا مُرَجِّح؛ وذلك هو الاحتمال المُرْسل، وتحدَّد منهج البحث (طرق الجدل والبحث والمناظرة) بما ينتهي إلى طُمأْنينةِ القلب على رؤية العقل؛ فيتخلَّصمن سلوك العِناد الذي يجعل القلبَ في قلق، ويجعلُ اللسان ناطقاً بغير أمانة ولا صدق مع العقل؛ وذلك هو العِناد والمكابرة.. وثمرةُ هذا الجهد الصادق يُعِيْد اللهُ به حيويةَ الموهبة وشبابَها، ويهب بها القلبَ شجاعةً وقوة وطمأنينة؛ فيعيش نعيماً مُعجَّلاً: أُنْساً بربه، ومحبَّةً لدينه وأوليائه، وبغضاً لكل عدوٍّ لله لا تنفع معه الموعظة - وذلك جزء من محبة الرب سبحانه، والأُنْسِ به وبدينه-؛ فإذا كان تصميمي على سلفيَّتي هذه عند مَنْ يريد تكرمتي حائلاً ومانعاً فلا أقول للتكريم (مرحباً ومَقْرَباً)، بل أرجو تكريمي يوم لقاء ربي، وذلك خير من الدنيا وما فيها.. والمسلم يتسامح بماله وجاهه ومَعُوْنَةِ جوارِحه، والصَّفحِ عَمَّن ظلمه؛ وأما الحقائق إذا قام برهانها يقيناً أو رُجحاناً فلا مُسامحةَ فيها ولا مزايدة، ولا يفعل ذلك إلا خليعٌ رِعْدِيدٌ جاحدٌ نعمةَ الله بالمعرفة والعلم وهداية الشرع الميسَّر لعقول وقلوب عباد الله عالِمهم وعاميهم بما يكفيهم من الدينونة لربهم.
قال أبو عبدالرحمن: وبعد هذه الجولة: أُعِيد إظهار ما أظهرته من عقيدتي السلفية، وأُظهر ما بين جانحيَّ إن لم أكن أظهرته؛ لإسكات مَن يخلط الأوراق، ويُزايد عليَّ في دعوى المحبة والاعتراف بالفضل والموهبة والصلاح لأعلام ينتسبون إلى أهل السنة والجماعة كالإمام ابن حزم والإمام ابن تيمية وتلميذه الشيخ ابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى.. وخَلْطُ الأوراق آتٍ من عدم التفريق بين الغلوِّ البغيض، والجفاءِ البغيض، والوسطِ الثالث الواجبِ المحمود من الردِّ إلى الأمر الأول الذي هو مذهب السلف حقيقةً، وأعني السلفَ المنصوصَ عليهم شرعاً الذين لا سلف غيرهم، فإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -