أطَوِّف ما أطَوِّف ثم آوي إلى غرفة قعيدها [التلفاز] و[اللوح السحري]. فعَبْرهما تُزْوى لي الأرض! لتكون قرية ذكية. أعرف دِقَّها وجلَّها.
كان ذلك بِفُنْدق [الأنتركونْتيننتال] بعد حضور ندوتي اليوم الأول من [الملتقى التنسيقي للجامعات, والمؤسسات المعنيَّة بالعربية] الذي ينفذه [مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية] استعداداً لجولة ثانية, ينداح فيها الادعاء العريض, من المتحدثين الممثلين لتلك المؤسسات، المرتهنة للتنظير وحَسْب, إذ لا مكان للغة العربية في المطارات, والمستشفيات, والبنوك, واللافتات.
فالعربي في الخليج يكاد يكون غريب الوجه, واليد, واللسان, لأن اللغة في عقر دارها مَفْضُولة.
وكان عليَّ وقد فرغْتُ من لغط المؤتمرين، أن أمُرَّ بالمُهِمِّ من القنوات الفضائية, قبل النوم, للوقوف على آخر المآسي ,والانكسارات العربية. وتلك وجبة استخبارية ملوثة, لابد منها لرجل مثلي, يَحْمِل همَّ أُمَّته, ويتمنى لو أطيع له أمر, لإيقاف هذا النَّزيف, وتجْفيف حمامات الدم المراق, كالماء في الأسواق, حتى لكأنه من سخائه, لا يثير اشْمئزازاً, ولا يحرك مشاعراً.
ونَوْمٌ في أعقاب هذه المشاهد المؤذية, لن يكون سعيداً, ولا مريحاً؛ وستكون أحلامه مزعجةً, وكوابيسه ثقيلة. وحين اضطررت إلى قطع تلك الجولة, وإقفال أجهزة الاتصال الفاضحة, تذكرت تعريف [نِيتْشه] للثقافة حين قال:- [هي ما تفهمه بعد ما تنسى كل الذي قرأته وشاهدته]. فلقد حاولت نسيان ما شاهدت, و لكنني لن أتخلَّص من تأثيره المنشئ للثقافة, كما يتصورها “نِيتْشه”.
هذا الفهم الناشئ من السماع ,والقراءة ,والمشاهدة, ولَّد ذلك التساؤل, عَمَّنْ سَيدْفع [فاتورة] الانفلات العربي. وهو تساؤل مشروع, وبخاصة حين تجاوزت [الفواتيرُ] الثمنَ المتمثل بالدرهم والدينار.
فالمال في نظر العقلاء أيسر الأثمان, وأهونها, على أنَّ المتبادر إلى الذهن السائد هو الثمن النقدي. والحق أن الفاتورة ذاتُ شِقَّيْن:
- شق حِسِّي عَيْنِي نَلمسه ونشاهده, ولا نُوْقى شُحَّ الأنفس حين نسمع ونرى تلاحق المدفوعات, مع أنها أهون الضررين.
- وشقّ معنوي نعانيه, ولا نعاينه, وهو الأنكى، والأمَرُّ.
والمتجرع لمرارة المآسي. إما أن يَدْفع الشِّق الأول: اختياراً, أو اضطراراً. وهو حين يدفع على الحالين, أو على أحدهما, يكون هو - أيضاً - ذا حالين:
- فإما أن يكون من جُناة المأساة.
- أو لا يكون.
ولكنه بالضرورة مُصْطلٍ بحرِّها. وما أكثر الذين يتحملون الجرائر, وهم ليسوا من جناتها, على شاكلة [امرئ القيس] الذي قال بعد قتل بني أسَدٍ لأبيه:
[ضَيَّعني أبي صغيراً, وحمَّلني دمه كبيراً]
أو على شاكلة “الحارث بن عباد البكري” الذي جُرَّ إلى حَرْبٍ اعتزلها, وذلك حين قُتِل ولده غِيْلةً, وقيل عند قتله على يد أشقى بني تغلب:-
[بُوء بِشِسْعِ نعل كليب], فقال أبوه:-
[لم أكُنْ من جُناتها عَلِمَ اللهُ .. وإني بِحَرِّها اليوم صَال]
والخليجيون وحدهم الذين يُشْبهون هذين المَدْفُوعين إلى الحرب، والاصطلاء بحرها:-
[وما الحرب إلا ما علمتم و ذقتم ]
والذين لا يحملون همَّ أمتهم لا يُحِسُّون إلا بالثمن النقدي. أما الشجيون فهم الذين لا يقيمون وزنا لـ[فاتورة] النقد. لأنها تقي مصارع السوء.
فراجمات الدرهم والدينار أخف ضرراً من راجمات الصواريخ، لأنها تُعَدُّ من باب ارتكاب أخف الضررين, ومن باب الدفع بالتي هي أهون. فالفُلكِ المشحون بالنفط أهون من قطرة دم بريئة.
ولسنا بصدد الموازنة بين التكاليف, ذلك أن [أخاك مكره لا بطل]. ولم يعد أمام قادة الخليج خِيار, وهم في اللهب, ولمَّا يحترقوا، إلا أن يَرْمُوا بثقلهم. فالحرب الطائفية المجوسية إن حَقَّقت النَّصْر, كانوا الوجبة التالية. فحق إنسان الخليج أن يأوي إلى مأمن يَعْصِمه من القتل الهمجي. وقدرنا العصيب أن يكون هَمُّنا أُمَمِيًّا ,وليس اقليمياً, ولا آنياً, بحيث تُقَوْقِعُنا الأنَوِيَّةُ. فَنَحْن أمة من المحيط إلى الخليج, منذ الناموس الذي أَلمَّ بالرحمة المهداة, والنَّعمة المسْداة في [غار حرى] إلى تلك اللحظة التي نكتب فيها, أو نقرأ. ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
لقد تذكرت والذكرى مُؤَرِّقة, وأنا أكتب هذه التأوهات شاعرين, أدركا بوادر النكبة, وجَسَّداها, كما لو كانا حاضرين معنا في [ملتقى اللغة]، أو في أجواء الأمة المؤلم:-
- حافظ إبراهيم, الذي تَحَدَّث على لسان اللغة بما يَنْدى له الجبين.
- ومحمود غنيم, الذي جَسَّد الوضع الإسلامي بما تتقطع معه نياط القلوب.
وسيكون لي حديثٌ مستقل -إن شاء الله- عما جَسَّداه في قصيدتيهما اللتين تُولدان في كل يوم مرة, أو مرتين, لأن مأساة اللغة, ونكبة الأمة الإسلامية تولدان كل لحظة.
وإذا قلبنا ركام الفواتير ,وتنوعها ,وجدنا أن الخطورة تكمن في شِق [الفاتورة] المعنوي الذي نعانيه, ولا نعاينه.
فالإنسان الخليجي يَعِيشُ ربيعه حقيقة, لا ادعاءً, ولكنَّه خائف يترقب, ومن ثم لم تنقلب جيوشه على أُمرائه, ولم تثر شعوبه على سلاطينهم, ومع ذلك لما يزل جَسَدُه يتداعى بالسَّهر والحُمَّى , وكلٌّ مكلوم يُوْقِظه لهمُومه.
لقد زلزلت الأرض من تحت الأقدام, أثناء المد القومي الاشتراكي، والبعث العربي، والتضامن الإسلامي, وقيل عن حكام الخليج فَوْق ما قال [مالك] في الخمر. ومات المُوجِفون في غيظهم, لم ينالوا شيئاً.
وظل الخليج كما الجبل الأشم, تتلاطم أمواج الفتن على سفحه. وفِتَنُه مِنْ قَبْل جاءت من الأشقاء, الذين وعوا الدرس, ولكن بعد فوات الأوان.
أمَّا اليوم فإنَّ الأمواج بلغت الزُّبى, والطوفان بلغ الذرى, والفتن تَنْبعث من كل جانب, تُذكيها الطائفية, والعنصرية, والحزبية, وصراع [الأيديولوجيات],والمصالح ,والنفوذ.زاحفة من المشرق, من حيث يطلع قرن الشيطان, وسَوْف يبوء المعتدي بإثمه, وإثم المُعتدى عليه, ولكنَّ الثمن سيكون باهظاً, والحَسْمُ بطيئاً. فقد يُمَحِّص الله الذنوب بالابتلاء:- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } و[لو ترك القطا لنام].
لقد أيقظتنا هموم العِدَى, وكنا نظن أن بإمكاننا حين نوقظ النفط أننا قادرون على أن ننام نوم قرير العين هانيها.
[النفط]وإن كان لمَّا يزل متيقظاً, إلا أن لهيب الفتن, تَقْرِضُنا ذات اليمين, وذات الشمال. وذلك هو الثمن الباهظ الذي تتجرع الأمة العربية مراراته. والحرب الضروس في [دمشق] الأمويين, والفتن العمياء في [بغداد] الرشيد, والتناوش الدموي في [اليمن] التَّعيس, وتململ الفوضى في [لبنان], والاضطرابات في [الكويت] و[البحرين] وبقايا الثورات في [مصر ] و[ليبيا ] و[تونس] كل ذلك رسائل واضحة لحكام الخليج, الذين لم يكونوا بعد على قلب رجل واحد.
والخليج اليوم آخر القلاع أمام الأحلام الصفوية.
فلنأخذ الأحداث بجد, قبل أن يفجأنا بأس الله بياتا, ونحن نائمون, أو يأتينا ضحى, ونحن لاعبون, {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
يتبع...