قبل عشرات السنين كان الإنسان في الجزيرة العربية هو جزء من قبيلته التي يعيش في كنفها في إحدى الصحاري الواسعة, تتكفل بإطعامه وتحرص على تدريبه على فنون الصيد والقتال, وتوفر له الأمن والحماية, بل إنها قد تختار له زوجة مناسبة من بنات أعمامه.. كانت القبيلة بالنسبة له الأمن والعائلة والوطـن, وحين توحدت المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وأصبحت السعودية دولة مدنية لها أركانها ومؤسساتها المعنية بتسيير شؤون البلاد والعباد, تبدل الحال كثيرا وتغير المشهد جملة وتفصيلا ًوتجزأت القبيلة الكبيرة الى أسر صغيرة، وأضحى لكل فرد فيها بيت يأوي إليه مع عائلته, ووظيفة رسمية تشكل له مصدر رزق ثابتا وآمنا.
ورغم أن الحياة المدنية طغت على المشهد الاجتماعي, إلا أن فكر الجماعات والتكتلات القبلية لم يتغير كثيرا رغم كل ما فعلته الحضارة بالإنسان, حيث لازال التعصب للقبيلة موجودا وحاضرا بقوة في المدارس والجامعات والمجالس وكثير من التجمعات الاجتماعية, ولازال معظم أفراد المجتمع لا يؤمن بقيمة الفرد بل بقيمة الجماعة, حيث يظل الفرد مهما حقق من إنجازات وسطر من إبداعات رهين هذه النظرة القاصرة المحدودة التي ستسأله في نهاية المطاف عن اسم والده, وعن مكانة أسرته الاجتماعية, وسيزيد إعجابهم وسترتفع أسهمه إذا كان منحدرا من أصول عريقة, أو إن كان ابن تاجر معروف له اسمه ومكانته في السوق.
وأنا لا أفشي سراً حين أقول إن الأسر لدينا تسأل عن أسرة الخاطب حين يتقدم لخطبة ابنتهم قبل أن تسأل عنه شخصياً, وتسأل عن أم الفتاة قبل أن تسأل عن الفتاة نفسها, وقد يُرفض شاب صالح طموح وخلوق فقط لأن أسرته لا تندرج ضمن قائمة الأسر الشهيرة ذات المال والجاه في البلاد.
وأمثالنا الاجتماعية تكرس لهذا الفكر ذي البعد الواحد وتغذيه من حيث لا تدري؛ حيث تقول «اقلب الجرة على فمها, تطلع البنت على أمها» كما أنه وفي موضوع الصداقة يوصيك أدبنا العربي أن «لا تسأل عن المرء واسأل عن قرينه, فكل قرين بالمقارن يقتدي» وغيرها الكثير.
أما في الدول المتقدمة التي تقدس الأفراد وتثمن إنجازاتهم وتمنحهم القيمة الكاملة فلا أحد يسأل عن القبيلة والأسرة والأب, وكم سيبدو غريباً أن تسأل في ألمانيا عن اسم والد أنشتاين, أو أن تطرح علامة استفهام في أمريكا عن هوية عائلة ستيف جوبز, أو عن قبيلة توماس أديسون، وعن مكانة أسرة مارتن لوثر كينج! إنهم يفتخرون بهم كأفراد فقط ويثمنون إنجازهم الإنساني وعطائهم الفردي دون أن يثقلوه بأعباء إضافية, لأنهم يحترمون المجهود المضني الذي يبذله الإنسان حتى يرتقي بذاته ويصنع بصمته الشخصية في العالم دون أن يتكئ على اسم والده أو اسرته؛ حيث إنه وببساطة لم يختر ذلك بل ورثه ولا فضل له في ذلك ولا منة.
حين نقدر الأفراد ونقدس قيمتهم وننظر لهم كأشخاص لا كجماعات قد يحملون وزرها أو فضلها, فإننا بذلك نحفز الإنسان «كفرد» على الإبداع والتقدم والنجاح في الحياة دون أن يعتمد على نجاح وسمعة غيره.
فمتى نتخلص من عقدة إلغاء هوية الفرد الإنسانية حين نذيبها عمداً في هوية قد لا تنسجم مع ما يأمل ويطمح الفرد لنفسه؟ ومتى ندرك أننا بمقدار ما نطمس فردية الإنسان وتهميشه ونفي أهليته وتكريس دمجه وتذويبه فإننا نكرس لمزيد من العنصرية والتخلف الذي لا يتناسب مع متطلبات المرحلة، وتتناقض مع آمالنا في الوصول الى مصاف الدول المتحضرة.. الله أعلم!.
Twitter:@lubnaalkhamis