|
لقد كانت فرصة سانحة أن ألتقي مؤخراً الباحث والمحقق الجغرافي د. عبدالله يوسف الغنيم رئيس مركز البحوث الكويتية على هامش ملتقى العقيق الخامس، الذي ركز هذه السنة محاوره على (معالم المدينة المنورة الطبيعية والتاريخية)، والحق يقال إن هذا العالم الجغرافي قد أثرى الملتقى بحضوره وبمداخلاته القيمة في الندوات والمحاضرات المصاحبة، لا سيما والرجل قد خبر جزيرة العرب خبرة طويلة وجاس خلال تضاريسها ومعالمها الطبيعية طولاً وعرضاً في بحر الأربعين سنة الماضية.
وقد أفضل هذا الباحث المحقق فأهداني شيئاً من مؤلفاته وتحقيقاته، وجلها متداول بين أهل البحث والدرس منذ زمن، ولعل من آخرها تحقيقه الرصين لرحلة مهمة لأحد رجالات الكويت قام فيها ذلك الرجل وهو مساعد يعقوب البدر سنة 1350هـ- 1932م بالسفر للحج على ظهور المطي، وذلك من الكويت إلى القصيم فإلى المدينة المنورة، ومنها إلى مكة المكرمة، ومن هناك بعد انقضاء الحج يعود الرحالة أدراجه إلى وطنه الكويت عبر طريق الحج البصري القديم.
إن هذه الرحلة التي تظهر لأول مرة لهي من الأهمية بمكان، فمن الجوانب الشيقة هنا تسجيل الرحالة الدقيق لمحطات الطريق وأسماءها ومقدار ما فيها من مياه للقافلة ومدة السير بينها بالساعة والدقيقة، زد على ذلك وصفه لطبيعة الأرض التي تقطعها القافلة، وإن كان مقتضباً، إلا أنه لم يفرط في تقييد ما يمر به من الجبال والكثبان والأودية والشعاب التي تقطعها القافلة، وتجده ينظر أيضاً في نبات الأرض، فيذكر ما قد يكون فيها من طلح أو سمر أو عشر أو عرفج أو دوم أوغيرها.
ومن تلك الأهمية أيضاً كونها من آخر ما قُيدته يراع أهل الرحلة من يوميات السفر على الإبل، لأن رحالتنا هذا قيد يومياته على ظهور المطي رغم ظهور السيارات على براري الجزيرة العربية، ونحن نعرف أن ابن ربيعة النجدي نزيل الزبير قد قام برحلة مشابهة على ظهور الإبل نشرت بعنوان (رحلة الحاج من بلد الزبير إلى البيت الحرام) وقد قام بها صاحبها (ابن ربيعة) قبل رحلتنا هذه بسبع سنين، أي سنة 1345هـ.
ومن أهمية هذه الرحلة للبدر أيضاً أن فيها وصفاً دقيقاً شائقاً للطريق الشرقي بين المدينة ومكة، فالقافلة التي حج معها المؤلف وصلت إلى المدينة ثم أخذت على الطريق الشرقي إلى مكة، وهو ذلكم الطريق الذي يأخذ إلى الشرق من حرة الحجاز العظيمة ويهوي إلى مكة عبر ميقات ذات عرق (الضريبة) وهي ميقات الحج العراقي، والطريق الشرقي بين المدينة ومكة هو طريق رديف للطريق السلطاني الذي يميل إلى الغرب على مقربة من الساحل، والرحالة الذين ساروا على هذا الطريق الشرقي ووصفوه قلائل معدودون، منهم الإنجليزي بيرتون والمصري إبراهيم رفعت والبرزنجي مرافق أمير الحج الشتجي.
لقد كانت هذه الرحلة المهمة ترقد في سبات عميق في أرشيف عائلة المؤلف، فكان أن أهدت العائلة تراث الجد المخطوط إلى مركز البحوث الكويتية، وفي ضمنه دفتر مدرسي قديم فيه يوميات تشبه في شكل كتابتها دفتر (يومية) الذي يقيد فيه التاجر أو البائع دخله وخرجه من البيع والشراء، ولعلهم -أي عائلة المؤلف- لم يكونوا يعرفون محتواها، ولم يدر في خلدهم أن تكون رحلة، نظراً ربما لخطها الرقعة الدقيق ولورود أوقات وأسماء ومواضع وأشخاص غير مفهومة، فضلاً عن استغلاق النص على غير المختصين، فعُرض هذا الدفتر العتيق على الباحث المحقق الغنيم، فنظر فإذا هو أمام نص مهم، وسرعان ما بان له أن بين يديه رحلة قيدها صاحبها مساعد البدر بقلمه، ومن هنا رأى المحقق أنها نص جدير بالنشر لفائدته العلمية والتاريخية فقام على ذلك خير قيام.
وقد أخرج المحقق الرحلة في حلة قشيبة، وفي نص واضح مفهوم. فقد وضح المواضع التي مر بها الرحالة بالحواشي التعريفية المفيدة وبالخرائط المساحية الدقيقة المقياس، وبالصور الفضائية أيضاً، وكان المؤلف ينحو دائماً في وصف الطريق إلى اللهجة الدارجة مثل «سندنا وشدينا ووطينا وتقلط» وغيرها، فقام المحقق بشرح المراد منها باللغة الفصحى أو بالأسلوب المعاصر، كما عرف المحقق بأسماء النبات التي يعرض لها المؤلف، وأخيراً أرفق المحقق صوراً من صفحات الرحلة المخطوطة وشرحاً لما فيها من مصطلحات أو أسماء أو كلمات.
والمؤلف كما ألمعت يعنى بوصف الأرض وصفاً طبوغرافياً واضحاً، فمن ذلك قوله: «تحركنا من موقعنا، وكان يميننا جبل أم سنون وعن يسارنا أول تلال إمرة».. أو قوله: «تحركنا من عبيل المرو، وهو تل مخروط الشكل شديد البياض يطوف الحاج -أي يمرون- عادة عن جنوبه»، أو كقوله: «الساعة 12:45م نزلنا في شمال جبل طمية، وهو جبل صخري متوسط الحجم شكله بيضوي، وقمته منبسطة، وحواليه من كل الجهات تلال كثيرة وشعاب زلقة أصعبها هو الأخير، وقد سقط عدد من الجمال، ولم يتأثر-بحمدالله- سوى ذلول واحدة للفليج وقد ذبحت، كما أصيب جملنا الأشقح».. وهكذا تظهر عناية الرجل بالوصف الطبوغرافي لتضاريس الأرض ورسومها كما ترى في وصفه لجبل طمية هذا، إلا أن قوله أنه جبل متوسط الحجم فغير مسلم، بل طمية جبل ضخم وعلم كبير، وما ظنك بهذا العلم الذي يرى من مسافة ستين أو سبعين كيلاً.. وسياحة المؤلف بين الجبال خاصة تلك التي في حمى ضرية مثل شعبي وطخفة وعسعس وما إليها تنشط ذاكرة القارئ في مواضع خلدها الشعر القديم، فإذا ما قال المؤلف مثلاً بدى لنا على البعد جبل عسعس فسرعان ما ينقدح في الذاكرة بيت امريء القيس المعروف: (ألِمّا على الربع القديم بعسعسا كأني أنادي أو أكلم أخرسا).
كما يعنى المؤلف أيضاً بوصف النبات والشجر الذي يمرون به، فمن ذلك قوله: «الساعة 7:30 ص مررنا بخبرة فيها أول شجر الدوم كان معظمه عن يميننا، وشجر الدوم مثل النخل إلا أن جذعه متفرع، وله ثمر مثل اللوز لايؤكل، وثمره يسمى الدوم أيضا».. فترى المؤلف كيف وصف شجرة الدوم بالمقارنة بينها وبين النخلة في شكل الجذع، إلا أن قوله أن ثمرة الدوم مثل اللوز وأنه لا يؤكل فغير صحيح، بل ثمرته سوداء متصلبة في حجم الليمونة، وكان يؤكل في ذلك الزمن بعد أن تكشط قشرته المتصلبة.
ولعلنا رأينا دقة المؤلف في تبيان الوقت في كل سكنة وحركة تخطوها القافلة، وفي كل مسير، ومن ذلك دقته وعنايته في تحديد الوقت اللازم عندما تجزع القافلة كثبان الرمال أي عروق النفود الكبير مثل عرق المظهور وعرق جهام وعرق لزام... إلخ. فالمؤلف يسجل هنا بدقة بداية صعود العرق ووقت النزول منه، ومنه نعرف أن البعير المتوسط الحمل يستغرق من نصف ساعة إلى خمس وأربعين دقيقة لامتطاء العرق والنزول منه، طبعاً مع الفارق بين عرق وآخر، أما كثبان الدهناء بحسب رحالتنا هذا فتأخذ من القافلة أربع إلى خمس ساعات لعبورها.
ورغم انشغال المؤلف في تقييد بيانات الرحلة الملاحية -إن صح التعبير- إلا أنه لم يعزب عن فطنته تقييد الحوادث العارضة للركب، وبعضها للأسف حوادث مؤلمة وربما محزنة، لكن لا يدور بخلدك أنها حوادث سطو على القافلة أو اعتراض لطريقها، فتلك حقبة كانت قد انطوت بحمد الله قبل قيام رحلتنا هذه بزمن قصير، لكنها أشياء وحوادث عارضة مما تسببها عادة وعثاء السفر ومشقة الطريق في هذه الصحاري القاسية، فمن ذلك قول المؤلف عند أبان الأسود: الساعة 2:30م نزل علينا مطر شديد وسيل عظيم أقمنا بسببه في ذلك اليوم في مكاننا، وتوفيت سيدة من المفرح جهزت ودفنت ضحى ذلك اليوم» ، فالمؤلف يشير هنا إلى وفاة إحدى نساء الركب أثناء السفر، ويبدو أن النساء كن أكثر عرضة لمشاق السفر من الرجال، وهكذا نجد المؤلف يقول في إحدى المنازل: تحركنا من بريدة فنزلنا الضلفعة، وتأخرت حملة الفلاح بسبب أمرأة معهم أسقطت -أي أجهضت-، وتأخرت حملة ابن حمود لقضاء بعض الأعمال».
وعند ميقات الضريية تنال المشقة والنصب والكلال من امرأة أخرى، يقول المؤلف: «نزلنا على الرصن.. وقد تأخر يوسف الصميط عن مكان نزولنا بسبب آلام ألمت بسبيكة الصميط.» بل ثمة ما هو أشد، أي من الحوادث المؤلمة التي طالت جماعة من القافلة، ومنها ما أشار إليه المؤلف بقوله: حادثة يوم الجمعة 18 مارس: أصاب أحد رجالات الشيخ صباح في أثناء رميه الصيد فأصاب إبراهيم بن سيار بثلاث شظايا على جبهته وتحت عينيه، وأصاب محمد بن محطب في رجليه وشاهين الفودري في رجليه أيضاً»، قلت: فانظر إلى هذا التابع أو (الخوي) الذي أراغ الصيد فلم يسلم أصحابه من وابل نيرانه!.. وأما بالنسبة للغة المؤلف فهي مسألة جديرة بالملاحظة، وفيها صيد وفير لدارس اللهجة الدارجة، فقد كتب مساعد البدر رحلته بالعربية المحكية أو بالأحرى باللهجة الدارجة في نجد والكويت آنذاك، رغم أنه يبدو واضحاً من أسلوبه ومن دقة خطه أنه كان على حظ من العلم والثقافة، وقد أشار المحقق الغنيم في مقدمته إلى شواهد تفيد أن المؤلف قد شدا طُرفاً من العلوم على نفر من مشايخ الدرس في الكويت، وهكذا فالرحلة في أصلها كتبت بالدارجة النجدية الكويتية يتخللها كلمعارض من لهجة الجمالة والبادية وأهل ذاك الزمان، وهي مع ذلك ذرء يسير من العبارات التي لا تند عن فطنة القارئ الذي ألف لهجات هذه الديار، فمن ذلك قول المؤلف سندنا أي أصعدنا في الوادي ومسنادنا أي ذهابنا مصعدين ومحدارنا أي عودتنا منحدرين، ووطينا موضع كذا أي مررنا به، وتقلط فلان أي تقدمنا وسبقنا، ونوخنا أي حططنا الرحال، وقاطين أو(غاطين) أي طابقين، وشفنا جِرّة موتر أي رأينا أثر سيارة، واستاسع الوادي أي اتسع وهكذا، وقد قام المحقق بإعادة صياغة النص وسبكه في لغة عربية فصيحة، وتتبع المحقق هذه العبارات التي قد تندّ عن فهم البعض وشرحها ووضّح معناها بالأسلوب المعاصر، غير أني قد مررت ببعض الكلم نحو قول المؤلف: قدْرُنا 11 خبرة، ولم يوضح المحقق المراد منه ولعله اعتبره واضحاً مفهوما، و(خبرة) بالضم كلمة كانت تستخدم في نجد قديما، وتعني عندهم فرقة أو مجموعة، ولعلي لم أجد غير هذه العبارة التي قد تحوج إلى شرح، والنص بعد ذلك سائغ مستقيم بعد أن أقام أوده المحقق الفاضل.
ولعل أبرز ما قام به المحقق من تحقيق علمي في هذا العمل هو تصحيحه لأسماء المواضع، فالمؤلف يذكر في رحلته جمهرة واسعة من المواضع التي طالها التحريف والتصحيف، فاجتهد المحقق في ردها أو كتابتها على الوجه الصحيح، نحو الجردي وصوابها الأجردي، والحنانية وصوابها الحنينية، الدريبية وصوابها الدليمية وحاقول وصوابها العاقول وغيرها كثير، وقد خرّج المحقق تعريف هذه المواضع من كتب المواضع والبلدان وكذلك بناء على رحلاته العلمية في الجزيرة العربية، ولكن ظل شيء من المواضع لم يستبن الوجه فيه للمحقق فتركه على حاله، وذلك مثل الأجملة التي لم يجد لها المحقق تخريجاً وكذا الأضابع وخراب، غير أني وجدت تخريجاً للموضع الأخير (خراب) عند البلادي في رحلته (على ربى نجد، ص 161)، حيث يذكر أنه اسم جبل على سفوحه خرائب بحذاء وادي الشعبة على الطريق الشرقي بين مكة والمدينة.
وبعد فمن اطلع على هذه النسخة المحققة من رحلة مساعد البدر (الرحلة الميمونة إلى بيت الله الحرام) فسيجد فيها متعة معرفية من معلومات جغرافية وتاريخية واجتماعية على جانب من الأهمية، وقد كانت تلك الرحلة القيمة حبيسة ذلكم الدفتر العتيق فأخرجها المحقق الغنيم واضحة مقروءة مشروحة للعلماء والقراء والمثقفين على حد سواء، فجزاه الله خير الجزاء، ووفقنا وإياه إلى الخير والسداد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
صالح بن محمد المطيري - slhmtri@gmail.com