المدينة المنورة - خاص بـ(الجزيرة):
جدد داعية إسلامي التأكيد على النظرة الشمولية للشريعة الإسلامية وأحكامها لمصالح الفرد والمجتمع، وتحقيق المصلحتين دون أن يكون هناك تضارب أو تضاد بين المصلحتين، حيث إن الشريعة الإسلامية تنظر لمصلحة الفرد حتى تبدو لبعض المتعجلين المنبهرين بالأفكار المستوردة الأرضية، وكأنها تقر مبدأ الرأسمالية (معاذ الله)، وأحيانا تغلّب جانب الجماعة في أنواع وكأنها تصحح مذهب الاشتراكية (حاشاها)، محذراً فضيلته من احتكار السلع واستغلال حاجة الناس في رفع الأسعار تحت أعذار واهية لا يقرها دين ولاعقل ولا منطق، وداعياً في الوقت ذاته إلى تفعيل دور الجهات الرقابية في مراقبة الأسواق والأسعار وحماية المستهلكين من جشع بعض التجار.
جاء ذلك في سياق حديث فضيلة الدكتور محمود بن محمد المختار الشنقيطي عضو مركز الدعوة والإرشاد بالمدينة المنورة لـ»الجزيرة» عن نظر الشريعة الإسلامية للمعاملات التجارية داخل المجتمع المسلم، ومسائل البيع والاحتكار، وأثر ذلك على أسعار السلع والخدمات المتداولة بين أفراد المجتمع، لافتاً إلى أن الشريعة الإسلامية تنظر للطرفين في توازن عجيب، تارة تُحرّم بعضَ المعاملات لأسباب شرعية صيانة للشرع، مثل حرمة البيع بعد آذان الجمعة الثاني، ومثل حرمة بيع المصحف للكافر، وأحيانا تحرّم معاملة ما، صيانة لأرواح وأمن المجتمع وسدا للذرائع، مثل النهي عن بيع السلاح في زمن الفتنة والحرب بين المسلمين، ومن مبدأ المحافظة على الأخوة، وسلامة النفوس داخل المجتمع المسلم حرمت الشريعة بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سوم أخيه، مع أنه مستوفى لشروط صحة البيع وأركانه لكن لما كان فيه ظلم لأخيه المسلم وأذية له، جعلت البائع أو المشتري على بيع أخيه آثما، كذلك لو أن تجارا اتفقوا على رفع الأسعار قبل الدخول في المناقصة، لما في ذلك من الإضرار بصاحب المعاملة، لأنه ما لجأ إلى المناقصة إلا للحصول على أقل الأسعار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) رواه الإمام مسلم رحمه الله.، ثم إن الاتفاق المسبق، وتقاسم الصفقة فيما بين التجار دون علم العميل، هذا لاشك أنه غش وخداع لهذا العميل، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله أيضا (من غشنا فليس منا).
وأشار فضيلته إلى أن الشريعة لم تتدخل في مسألة حد الربح مادامت السلع متوفرة والأسعار غير محددة، أما في حالة قلة وجود السلع في الأسواق، أو قلة مواردها، أو أن السلع محددة من قبل الجهات المختصة، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يبيع كما يبيع الناس.
وعرف الدكتور محمود الشنقيطي الاحتكار بأنه حبس الشيء عن العرض وقت الرخص، وبيعه وقت الغلاء في السوق، وعند اشتداد الحاجة إليه في السوق السوداء، مستعرضاً بعضاً من طرق الاحتكار والتي وصفها بأنها كثيرة منها: عمليات حرق الأسعار، منها: الاندماج والاستحواذ، ومنها: إبرام اتفاقيات بين المتنافسين بصورة معلنة أو سرية، أو وجود اتفاقات ضمنية، وهناك اتفاقات أفقية بين المتنافسين بغرض قصر المنافسة فيما بينهم فقط، ومنها: اتفاق عدد من المنافسين على تقسيم السوق إلى مناطق معينة وفقا للمبيعات، أو وفقا لأماكن تواجد المستهلكين، كما يدخل التمييز السعري من ضمن حالات الممارسات الاحتكارية، هي كلها محرمة لما فيها من القضاء على المنافسة الحقيقية في السوق وهو ما يركز عليه الاقتصاد الإسلامي بجودة السلعة أو المنتج، واحترام عقلية المشترى المستهلك واختياره.
ورأى الدكتور الشنقيطي إلى أنه يمكن حل ظاهرة الاحتكار بعدد من الأمور منها، إشاعة ثقافة الاستغناء: وتلك ثقافة عمرية، فعندما شكى الناس لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - غلاء اللحم والأسعار قال لهم: (أرخصوها بالاستغناء)، فلو استغنى الناس عن الكماليات وبعض الحاجيات التي لا يصيبهم من جرائها حرج شديد لأسهم ذلك في رخص الأسعار.
وشدد فضيلته - في ذات السياق - على دور الدعاة والمربين بأن يعلموا الناس كيف يشترون، وكيف يرتبون حاجاتهم وفق سلم الأولويات التي ترتب الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات، ومتى تقدم حقوق العباد على حقوق الله، ومتى يجوز أخذ الدين، ومتى يذم عليه المسلم، ولا يجوز له أخذه ولا التوسع فيه، نعم هناك حالات يحرم فيها أخذ الدين، فمن غلب على ظنه عدم وجود السداد وغلب على ظنه عجزه عن السداد، فإنه يحرم عليه أخذ الدين لما فيه من تضييع أموال الناس.
وأكد أهمية بيان الحكم الشرعي وتذكير التجار بأن الاحتكار محرم، دل على تحريمه ما رواه الإمام مسلم «رحمه الله» في صحيحه عن معمر بن عبد الله «رضي الله عنه» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ)، ومعنى (إلا خاطئ ) العاصي الآثم، وإنما حرم الشرع الاحتكار لما فيه من الإضرار بالناس، وقد اختلف أهل العلم فيما يجرى فيه الاحتكار، فمنهم من يقول: هو في القوت خاصة، ومنهم وهو الراجح: من يرى أنه يجرى في كل ما يحتاجه الناس ويتضررون بحبسه، وهذا مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد، وهذا القول هو الصحيح الموافق لظاهر الأحاديث وقد نصره الإمام الشوكاني، والإمام الرملي الشافعي -رحمهما الله-، وبهذا القول أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء عندنا هنا في المملكة، مشيراً إلى أن القول بأن التحريم يشمل عموم حاجات الناس وليس القوت فقط، هو ما يتفق مع الحكمة التي من أجلها منع الاحتكار، وهي منع الإضرار بالناس، وكذلك محاربة كل من يحتكر بإبلاغ الجهات المختصة عنه لأن هذا من التعاون على البر وغلق باب التعاون على الإثم والعدوان والإضرار بالناس.
ودعا الشنقيطي إلى إجبار المحتكر على بيع ما يحتكِره، مبيناً أن الفقهاء يقولون: إن من احتكر سلعة على الوجه الممنوع يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج السلعة إلى السوق ويبيعها لأهل الحاجة إليها بالسعر الذي اشتراها به ولا يزيد عليه شيئا، لأنه منع الناس منها بشرائها من غير وجه حق، فيجب أن يمكنهم منها بالسعر الذي كانوا يشترونها به لو لم يتعدَّ عليها، ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن لولي الأمر إذا رفض المحتكِر تنفيذ ذلك مصادرة السلع المخزونة وبيعها في السوق بثمن المثل، ويجوز تعويض المحتكر بعد ذلك أو عدم تعويضه، كذلك يجوز لولي الأمر تعزير المحتكِر بأحد أمور يراها الحاكم، فقد يكون التعزير بأخذ ما يترتب على الاحتكار من ربح ويوزعه على المحتاجين، وقد يكون التعزير بحبْس المحتكِر، وقد يكون التعزير عن طريق إتلاف أمواله المحتكَرة تأديباً له، كما فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع بعض المحتكِرين أو يكون بالحجر عليه وغيره مما هو داخل في قاعدة: (تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام).
وواصل فضيلته القول: ومن الطرق كذلك للقضاء على ظاهرة الاحتكار العمل على توفير السلع: وذلك بأن يعمل ولي الأمر على زيادة إنتاج السلع التي أصبحت نادرة في السوق، إما بفعل المحتكرين، أو بفعل المنتجين، فله إجبار أهل الصناعات والمنتجين على توجيه اهتماماتهم إلى إنتاج ما يحتاجه الناس من سلع يقل وجودها ويرتفع نتيجة لذلك سعرها، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك: (فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم).
وحث على تشجيع التبادل التجاري: ولهذا الجانب أثره في تحقيق الرواج الاقتصادي الذي يمنع ظهور الاحتكار، لأنه يؤدي إلى زيادة عرض السلع، فتنخفض الأسعار، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان)، فالحكمة في ذلك هو حماية التجار الجالبين من الغش والظلم، لعدم معرفتهم بأسعار السوق، فكان منع الوسطاء بين الجالبين وأهل البلد وسيلة تفادي الاحتكار، وما ينتج عنه من أضرار، فالتسعير وإن كان الأصل فيه المنع إلا أنه يكون جائزاً في حالة الضرورة والحماية للناس من جشع التجار ودرء المخاطر الاحتكار عنهم، فهو من قبيل السياسة الشرعية التي جعل للحاكم أو نائبه في مثل ذلك الحق في التخصيص والتقدير والتسعير.
وشدد على أهمية تفعيل دور الجهات الرقابية في مراقبة الأسعار وحماية المستهلكين، مثل وزارة التجارة ومحاسبتها لا سمح الله، من قبل ديوان المظالم لو تساهلت أو قصرت في الرقابة على ارتفاع الأسعار والمحتكرين، ويمكن توسيع دائرة الرقابة وإشراك رجال الحسبة فيقومون بمهمة مراقبة الأسواق بما فيها من أموال (سلع) وأعمال (أجور) ومنافع (كذا الإيجارات) والتبليغ عن أنواع الاحتكار، وأيضاً تنظيم أدوات معاصرة لمحاربة التجار المحتكرين بإرسال قوائم بالمحلات التي لا تحتكر والدعاية لها عن طريق رسائل الجوالات ومواقع النت والدعاية المجانية لها في المجالس، وشكر هؤلاء التجار من قبل أهالي الحي والجمعيات الشعبية الأهلية ودعمها بشراء الجهات التمويلية جملة منها..الخ.، وتشجيع المنتج المحلي والاستغناء ما أمكن عن الاستيراد.
وأبرز الشنقيطي أهمية إشاعة روح الأخوة وتعزيز التعاون الاجتماعي في خطاباتنا وبرامجنا الدعوية، وشعور الجميع بأن من آكد لوازم الأخوة شعور الجميع بمسئولية بعضهم عن بعض، والمحافظة على المصالح العامة والخاصة، ودفع المفاسد والأضرار المالية، فلا يثرّب ولا يُجرّ م المدين إذا لم يجد السداد وعجز عنه في وقته، قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، وأن التكافل الاجتماعي يقتضي أن يحمل كل منا تبعات أخيه وسيسأل عنها يوم القيامة، ممتثلين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).