|
اقرؤوه إن شئتم عامٌ (مَرّ) أو (مُرٌ).. فالأمر عندي سِيّان، وانقضاؤه جَمَع بين نقيضين: بين التعجّل لتقارب الزمان حيث السنة كالشهر والشهر كالجمعة، والتثاقل.. لشِدّة الوَجْد ولوعة الفِراق.. وَجْد فِراق الأب والحبيب، فقد رحل أبي وسيّدي (الشيخ الدكتور/ إبراهيم على رَكّه) في التاسع من شعبان عام 1433هـ، فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها صبيحة يوم أغرّ يوم الجمعة، فكان ذاك أول عزائي فيه، إذ جاء في الحديث «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الجُمُعَةَ أو لَيْلَة الجُمُعَةَ فَقَدْ وُقِيَ فِتْنَةَ القَبْرِ» ودُفن بالمعلاة بعد أن صلّت عليه جموع المسلمين عقب صلاة الجمعة بالمسجد الحرام، المسجد الذي طالما ارتبط به جسداً ورُوحاً اعتاد أن يقصده جُلّ أيامه.. يصلي فيه مغرب وعِشاء كل يوم وجُمعة كل أسبوع وتراويح كل رمضان، لا ينقطع عنه إلاّ لِشِدّتين شِدّة مرض أو شِدّة زحام. ولم يدَعْ عادته تلك حتى بعد أن وَهن عظْمه وضَعُف بصره، ولمّا كنت أستجديه الرفق بنفسه والقصد في ذهابه إليه يجيبني: ياولدي.. ذهابي للحرم يشعرني بالطمأنينة».
ارتباطه -يرحمه الله- بالبيت الحرام كارتباطه بالبلد الحرام.. مكّة (شرّفها الله)، حيث وُلد ونشأ فيها يتيم الأم، فقد ماتت وما تجاوزت سِنُّه السادسة، فعاش في كنف أبيه تتعهده بالتربية والرعاية عَمّتُه، ثم درَس فيها الابتدائية بالمدرسة العارفية، والإعدادية والثانوية بالمعهد العلمي السعودي. كانت تتنازعه أثناء تلك المرحلة رغبته الجامحة في طلب العلم ورغبة أبيه في توريثه صنعته (الصياغة) مُردداً على مسامعه مقولة المكيين الشهيرة آنذاك «صنعة أبوك.. لا يغلبوك»، إلاّ أن استجابة الأب لرغبة ولده مكّنته من مواصلة دراسته الجامعية، فحصل على ليسانس اللغة العربية عام 1379هـ. ولمّا عُيّن لتفوقه معيداً بالكلية التي تخرج منها كان حتماً عليه أن يختار بين ترك معشوقته (مكة) للابتعاث إلى الخارج وبين البقاء فيها متخلياً عن متابعة دراسته (العُليا) ومُضحياً بوظيفته الأكاديمية، وبعد رحلة وجيزة إلى بريطانيا.. اختار العودة إلى أحضان مكة مُجنباً نفسه وأهله غُربة البُعد عنها ولاسيّما أن بعض أطفاله كان قد بدأ لِتوه مسيرته الدراسية. فانضم إلى سلك التربية والتعليم وأصبح من رجالاتهما المبرّزين، درّس في مكة وجدة وعُيّن لفترة طويلة مديراً لبعض مدارس مكة إلاّ أن حُلم استكمال الدراسات العليا ظل يراوده ويُلح عليه، ولِعلوِّ هِمته حقّق - بتوفيقٍ من الله - مُراده، وبعد مثابرة وجِهاد نال الماجستير من جامعة كراتشي ثم الدكتوراه في النحو والصرف من كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1403هـ، وكانت كلية المعلمين بمكة محطته الأخيرة قبل تقاعده المبكر عام 1413هـ.
كان للعلوم الشرعية سهمٌ وافرٌ من سعيه الدؤوب في طلب العلم فقد تتلمذ في سن مبكرة على أيدي كِبار العلماء المكيين من أبرزهم: الشيخ يحيى أمان، السيد محمدأمين كتبي الشيخ محمدنورسيف، السيد علوي مالكي، وغيرهم. إلاّ أن أكثر ما كان يفخر به تتلمذه على يدي علاّمتي مكةَ ومِصرَ الشيخين الجليلين حسن مشّاط ومحمد متولي الشعراوي وملازمته الأول إلى أن تُوفي عام 1399هـ، ومجاورته الثاني في السكن طيلة فترة تواجده الأخير بمكة للتدريس في الجامعة.
وكان أبي صالحاً، مُحباً لله ورسوله، كثير السجود، قوّاماً صوّاماً، حفِظ القرآن فكان يخَتْمِه.. أقله مرة كل أسبوع، حِرصُه على النوافل كحِرصِه على الفرائض، بنَى على نفقته مسجدين في إندونيسيا، ووقّف مكتبته العلمية على مكتبة مكة المكرمة المجاورة للحرم حيث المولد النبوي الشريف، كما وقّف داراً له بمكة للجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمكة المكرمة، وغير ذلك من أعمال (البِرّ) التي أرجو لها من (البَرّ) القبول والمثوبة.
وبعد ياسيّدي: لا أفتأ أذكرك.. فأبكيك.. لأن مُصابي بك عظيم، وفقدي لك أليم، وفؤادي لفِراقك جريحٌ سقيم، ثم أتبسم.. تبسما يُغالبه البكاءُ.. حين أتخيّلك ضاحكاً متهللةً أساريرُ وجهك.. تُمازح جُلساءك من الأهل والأصحاب وتتحفهم ببعض طرائفك وذكرياتك القديمة، أو تداعب أحفادك وتتودد إليهم.. بل أتبسم حتى إن تخيلتك وَاجِداً على أحدٍ مُغاضِباً له. ولا يهدأ الخاطر إلاّ حين أذكر صبيحة اليوم الذي غادرت فيه المشفى قبل رحيلك بأسبوع - وأنا وقتَئذ رفيقك فيها - وبَيْنَا كنت أضع لُقيمات الإفطار في فِيك.. أخذت تنفحني وأهلي وذريتي دعاءً ما طرق مسمعي من قبل، فتطمئن نفسي، لغالب ظني.. أنك رحلت وأنت راضٍ عني. فَرَحِمك الله يا أبتاه.. فقدناه واشتقنا لرؤياه.. (بِرحمة ربنا) في الجنّة نلقاه وإنّ «فِي اللهِ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ».
أبِي نَيّرُ الأيَّامِ بَعْدَكَ أظْلَمَا
وَبُنْيَانُ مَجْدِي يومَ مِتَّ تَهَدَّمَا
وجِسْمِي الّذِي أبْلَاه فَقْدُك إنْ أكُنْ
رَحَلْتُ بِه فَالقَلْبُ عِنْدَكَ خَيَّمَا
- أستاذ مشارك.كلية الطب. جامعة أم القرى - الحصري القيرواني (ت: 488هـ)