مِن خَلْطِ الأوراق عند البُنيويين ما يتعلَّق بالمصطلحات، ويأتي الخلط من جهتين : أولاهما استعمال الاصطلاح المأثور في غير معناه، وأخراهما إهمال المستجدِّ من اصطلاح يُميِّزه عن مصطلح موروث؛ كي لا يحصل اللبس بين المعارف؛ ولهذا اللبس أثر سيئ يدلُّ على سوء القصد..
ومما جرى العبث به مصطلح (النص)؛ ولهذا أُحبُّ بيانَ أصله اللغوي في تراثنا، وبيان معناه الاصطلاحي في مأثورنا وعلاقتَه بالأصل اللغوي؛ فأصل النص لغة رَفْعُ الشيئ، وليس بمعنى الرفع بإطلاق، بل هو رَفْعٌ من أجل إبرازه وإظهاره ليراه الناظر من كل جوانبه.. وأما الرفع المطلق فيكون لهذا المعنى، ولمعنى إبعادِ منالهِ، ولأجل السَّتْر به، وحماية ما وراءه عن التسلُّق، ولإشرافه على العوالي كالبروج؛ إذْ تتضح الرؤية من أعلاه، وللتوسُّع في السَّكَن.. وقد لا يظهر ويبرز للرائي أعلاه من كلا جوانبه وهذا الأصل في الحِسِّيات التي تُلمس باليد.. ثم توسَّعوا به مجازاً على التشبيه في المعنويات؛ فجعلوه للألفاظ المركَّبة الدالة بوضوح؛ فراعوا الوضوح والظهور، وفي الظهور معنى البروز، والبروز نوع من الارتفاع، كما أنهم راعوا أن معناه مُرْتفِع ارتفاعاً معنوياً عن إرادة غيره من الاحتمالات.. ثم توسَّعوا فجعلوا النص للخطاب الدال وإن كان معناه لا يظهر مباشرة، بل هو خفيٌّ لا يظهر إلا بدقة استنباط؛ وإنما جعلوه نصَّاً مع خفائه لأنه كلام سِيق لأجل الدلالة على المعنى الخفي؛ فألفاظه ظاهرة بالقلم والنطق، ومعاني ألفاظه مُحْصاة.. وهذا عرف عام، ثم جاء علماء الشريعة فأبقوا النص دالاً على عموم العرف العام، ولكنَّهم ميَّزوا دلالة خطاب نصٍّ عن دلالة خطاب نص آخر، وهذا التمييز خاص بمعنى الخطاب نفسه لا باسمه؛ فجعلوا معنى النص لِـما دل عليه الخطاب بوضوح مباشر، وليس لمعنى سيظهر بعد خفاء؛ فصار النص في اصطلاحهم للمعنى نفسه إذا كان واضحاً مع إبقاء العرف العام ومعاني اللغة على ما هي عليه؛ لأنهم خصصوا عموم النص الواضحة ألفاظه عند أهل اللغة بالتقييد؛ فهذا نص على جليٍّ واضح، وهذا نص على أمر خفي يُظْهره الاستنباط.. ثم جاء البنيويون فاخترعوا للنص معاني عكس المأثور، وليس في معانيها علاقة تربطها باللغة، وبعد ذكري نماذج منها أُبيِّن المنهج في توصيل الثقافة الأجنبية وَفْق مرادهم ولكن بالمرادف المطابق في لغتنا.. فمن تلك النماذج أن (بارت) يقصر النص على (العمل الأدبي)، ويميِّزه في علاقته بالنص الحسي [كالمنصَّة التي توضع على جرم مرتفع] بأن العلاقة شبيهة بعلاقة (الواقع والواقعي)!!.. وهذا وَفْق مفهوم (جاك لاكان)؛ فالواقع بادٍ للعيان، والواقعي يحتاج إلى تبيينه والبرهنة عليه [انظر مقالة الدكتور عبدالله ولد محمد سالم (من تقنيات النص إلى استراتيجيَات القراءة مقاربة في الكتابة والتأويل بمجلة الرافد أكتوبر عام 2005م].
قال أبو عبدالرحمن : هذه اصطلاحات غير صحيحة معاكسة للصحيح؛ فالنص الكلامي هو الكلام الدال المركَّب من مفردات وروابط وجملة وجمل.. وتلك الاصطلاحات تشغل القارئ بالفضول، وتوحي له بالانبهار بفتح جديد، وما هو إلا فضول شديد الإلباس، وكل أمة لا بد أن يكون في لغتها لفظ إذا عُرِّب كان بمعنى النَّص الكلامي؛ لأن المعارف الضرورية العامة مُشتركة بين الأمم.. وهكذا النص الحسي والنص الكلامي معروفان بين الأمم. ومع هذا فقد جعل العلاقة بين النص الحسي والنص الكلامي علاقة وضعية حديثة معاكسة للارتباط بين ما هو حسي ومعنوي؛ فالنص الحسي جامع معنى بقيده؛ فهو نوع من الارتفاع والوضوح؛ فالرفع من أجل الوضوح.. والنص الكلامي في العرف العام لعموم الكلام المركَّب الدال، وهو في الاصطلاح العلمي لما كان معناه ظاهراً واضحاً مُرتفعاً عن أدنى احتمال؛ فجعله (بارت) لما يحتاج إلى بيان وبرهنة؛ فهل في عكس الحقائق أسوأُ من هذا؟!.. ومن الفضول غير المعقول الذي ينبهر به الحواة، ويحسبون أن وراءه كبيرَ معنى التفريقُ بين الواقع على أنه البادي للعِيان، وأن الواقعي يحتاج إلى بَرْهنة!!.. والصحيح أن دلالة الواو والقاف والعين واحدة تشمل المحسوس والمعنوي إلا أن الواقع صفة لكل ما وقع في الوجود، والواقعي نسبة إلى الواقع تعني خصوص المنسوب؛ لتأكيد وقوعه.. والنص متناً من الواقع الحسي غير الملموس؛ لأنه مسموع ومقروء، ومعنى النص واقعي من جهة الدلالة؛ فهو معنى واقعي الدلالة وليس مشروطاً بأن يكون واقعيَّ الوجود من جهة الصدق؛ فقد يكون كذباً ولكن هذا المعنى (إنْ صدقاً أو كذباً) هو الواقع من الدلالة بلا احتمال.
ومن يعاني إيصالَ الثقافة البنيوية الخواجية يجب أن يكون رائداً، والرائد لا يكذب أهله؛ فينقل أولاً ترجمة كلام البنيوي الخواجي بأمانة، ثم يُحقِّق ما عند الخواجي من اصطلاح وَضَعه حديثاً من جهة ارتباطه بمعاني النص في اللغة الثانية واللغة العربية، ويُنَقِّي المصطلحات من التراكم والأغاليط، ثم يختار لأبناء أمته ما صحَّ باصطلاحٍ وفق لغتهم، ولن يحتاج من ذلك الغثاء إلا إلى ما يلي: “العمل الأدبي من جملة النصوص التي هي كلام مركَّب دال، وقوامه الإيحاء؛ فالغالب فيه أنه (غير النص بمعنى الواضح الذي لا احتمال فيه)، بل مُعْظمه إيحاء خفي يحتاج إظهاره إلى دِقَّة استنباط “.. وفي المصدر السابق ذكر نسبيَّة معنى النص في الثقافات؛ فذكر بعض المعاني في اللغة العربية عن غير وعي بارتدادها إلى معنى أصلي واحد، ونموِّها وتوسُّعِها بالمجاز من جهة : اللزوم، أو التضمن، أو التشبيه، أو جعل الوصف اسماً، أو التعميم.. إلخ لعلاقة حسية أو فكرية أو شعورية، وذكر أنها في اللاتينية بمعنى النسيج، وأنها تطورت بعد ذلك ثقافياً، ومن المعاني التي تطوَّرت أن النص هو الجمل المفيدة مَحكيَّة أو مكتوبة.. وذكر خصوصية النص عند (تزفتان تودوروف) بأنه مُسْتقل منغلق، وأنه قد يكون جملة مفيدة، وقد يكون جُملاً، وقد يكون كتاباً [أي مُؤَلَّفاً، ومن الكتب ما هو صغير، ومنه ما هو عدد من المجلدات الضخمة].. ويرى الكاتب (ولد محمد سالم) أن تحديد النص مُفْتَقِر إلى الثقافة البنيوية؛ لأن اللغة تقتصر على مراعاة السطح اللغوي بكينونته الدلالية”!!.
قال أبو عبدالرحمن: هذا الكلام الطافح يَغِيظ كل غيور؛ ولهذا أقف عنده بالوقفات التالية :
الوقفة الأولى: أن أيَّ اصطلاح ليس عليه دلالة في اللغة ارتجال غير معتدٍّ به؛ لأن اللغة أظهر مراتب البيان، والخلائق إنما تتفاهم بما هو من لغتها، وما هو من نموِّ لغتها كالترجمة التي أصبح معناه مفهوماً عند الكافة.
والوقفة الثانية : أن موضوع البُنيوية هو (الكلام المركب الدَّال)، وذلك هو النص في لغة العرب وما يقابلها من لغات العالم.
والوقفة الثالثة : أن اللاتينية لغة علمٍ وتأليف؛ فمحال أن لا يكون عندها مرادف للنص بمعنى الكلام المركَّب المفيد، ولو صح أن أصل النص عندهم بمعنى النسيج لكان هذا معنى مجازياً؛ لأن النص من الكلام نسيجُه المفرداتُ والروابط والجمل.. ومحال أن يكون هذا الأصل مُغنياً عن مفردة في لغتهم تدلُّ على الكلام المركَّب الدال.
والوقفة الرابعة : أن النص مُحدَّد في لغتنا؛ فهو اسم لمتن الكلام، وهو صفة لكلام دلالته واضحة؛ فإذا جاء في لغةٍ غير لغتنا استعمالُ النص بغير معناه في لغتنا - وهذا بعيد في لغات العالم، بل للنص لفظ آخر يُترجم بالنص في لغتنا؛ وإنما يحدث ذلك مواضعة ارتجالية مُجرَّدة من معنى اللغة من وضع الأفراد؛ فيكون ثقافة رديئة مُضلِّلة -: فإن المَعْنيَّ بالبنيوية من رموزنا واجب عليه بعد إيراد الترجمة من اللغة الثانية أن ينفي ما جُعِل نصاً في لغتنا وليس عليه دلالة منها، بل ينفيه من معنى النص، ويترجمه إلى ما يدلُّ عليه من لغتنا.. وسيأتي نماذج لذلك إن شاء الله.
والوقفة الخامسة : أن كلَّ كلام مُرَكَّب دال مهما كانت سعة دلالته فهو مُستَقِلٌّ مُنغلق سواء أكانت الدلالة جلية واضحة، أم كانت خفية لا تظهر إلا بعناءٍ مِن دقيق الاستنباط.. ومعنى استقلالها وانغلاقها أنها لا تحتمل غير مراد المتكلِّم بالنص أو مراد كاتبه سواء أكان خبره صدقاً أم كذباً، وسواء كان حكمه عادلاً أو جائراً.. ولا ننسب إلى مُراده إلا ما دَلَّت عليه لغته؛ لأن الاعتداد يكون بالألفاظ ودلالتها لا بالمقاصد التي لم يُظهرها الكلام الدال.. وطرق الدلالة : من معاني المفردة، والصيغة، والرابطة، والنحو، والبلاغة، والسياق، والقرائن، ومعقول النص كثيرة جداً، ولكنها مع كثرتها تظل مستقلة منغلقة؛ لأن مراد صاحب النص لا يظهر إلا منها، ولا يظهر من تلك الدلالات الوسيعة إلا ما حجَّره النص بقيودٍ في تركيب الكلام.. وعلى هذا فَسَعْيُ البنيوية إلى امتلاك المُتلقِّي النص، وتوسيع دلالته بما لم يُرِدْه صاحب النص؛ لأنه لم يظهر من دلالة لغته : تقتضي مسؤولية كبرى من المعنيِّ بالبنيوية أن يُبوِّب بعنوان لا لبس فيه مثل: (قابِليَّةُ النصِّ سَعَةً في الدلالة من ابتكار المتلقِّي، ولكن لا تجوز نسبتها إلى صاحب النص بأيِّ وجه)؛ فهذا ترف أدبي مقبول على أنه تحفة جمالية بشرط أن لا يمسَّ دلالة النصوص المقدسَّة، ولا سير الناس من الصالحين والطالحين، بل يكون في جماليات الأدب.
والوقفة السادسة : أن تأويل النص الذي يهذي به البنيويون قسمان:
الأول تفسير النص الخفي بعناءٍ إلى أن ينتهي إلى مآل دلالته القابلةِ العلمَ بها، وأما مآل المغيَّب فعلمه عند الله؛ وهذا معنى صحيح في لغة العرب، وهو الذي يجب أن يكون همَّ البُنيوي.. والثاني صرف الكلام عن معنى يدل عليه إلى معنى لا يدل عليه؛ فهذا ليس له أصل في لغة العرب؛ وإنما هو من سلوك المُتكلمين وتسميتهم، وهو افتراء وإسقاط مُحرَّمان.
والوقفة السابعة : أن البركة التي نرجوها من البنيوية هي تفجير اللغة بدلالات سيمائية جديدة، وباستغلال صفات في المسمى إذا اقترنت أنتجت دلالة جديدة بالتصوير الرمزي أو بالتداعي، وهذه البركة يتخذها البنيوي ابتداء في إبداعه، ويتخذها سلوكاً في تفسيره النصوص بشرط أن يكون التفجير الطارئ من ثقافة صاحب النص.. وأما مقاصد كاتب النص التي لم يستطع التعبير عنها، أو عبَّر بخلافها فليس مجال ذلك تحليل النص إلا فيما أومأ إليه على استحياء وعَجَلٍ بباعث الخوف؛ فَتَقْتَرِن دلالة النص بتحليل سيرة صاحب النص، وما عدا ذلك فمآله إلى استيعاب سيرة صاحب النص بلا افتراء ولا إسقاط ولا تزوير.
والوقفة الثامنة: لا أفهم أن للغة سطحاً موصوفاً بكينونة الدلالة، بل ذلك هو عُمْق اللغة، وفوق كل ذي علمٍ عليم، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -