قرأت في صحيفة الجزيرة عدد (14820) يوم الجمعة 16 جمادى الآخرة 1434هـ مقالاً بعنوان الخلافة تلك أمة قد خلت.. في زاوية المسكوت عنه للدكتور حمزة السالم.
وأقول: إن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب والدكتور متخصص في الاقتصاد ومقاله هذا في غير تخصصه.
قال السالم عبارة ربما لاشتباه الأمر عليه: «الخلافة لم تأتِ للمسلمين ابتداعا، بل تقليدًا لأنظمة الحكم القائمة آنذاك من الإمبراطوريات، كالأكاسرة والقياصرة فهي مسميات حكام الفرس والروم وبيزنطة، فالمسميات مختلفة ولكن النظام واحد.» إلى أن قال: «وقد كانت كلها أنظمة تقوم على حكم الفرد المطلق المدعوم برجال الدين... ثم قال والذي خلق هذا الشكل من نظام الحكم هو المجتمع الاقتصادي فباستثناء المجتمعات الهمجية فإن جميع اقتصاديات المجتمعات المتحضرة الإسلامية وغيرها كانت إقطاعية... وقال ومن رحم الثقافة الإقطاعية تولدت فكرة الحاكم المطلق الذي يمنح ويحرم ويعفو ويظلم دون مساءلة.
فهذا الكلام يخالف ما ورد في القرآن والسنة وعن الخلفاء الراشدين فعمر -رضي الله عنه- كان يحاسب الولاة ويقول من أين لك هذا وأبو بكر يقول أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ويقول: إن لم أقم فقوموني، ويقول عمر أصابت امرأة وأخطأ عمر، وكان أبو بكر يجمع وجوه الناس في كل أمر ينزل ويستشيرهم في كل شيء في الردة وميراث الجدة وجيش أسامة وجمع القرآن، كما قيل عنه كان يجمع الناس ليستشيرهم، وعمر ورد عنه كثير من ذلك كما في عام الطاعون وغيره والحوادث كثيرة، وكان الرسول يحاسب الخلفاء وحاسب ابن اللتبية رضي الله عنه، والنبي- صلى الله عليه وسلم- يقول كل مال فهو لكم وليس فيه مثل هذه وأخذ شعرة من الجمل ويقول إلا الخمس وهو مردود فيكم، والأعرابي يقول أتيت من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. ولكنه منهج القرامطة والباطنية الذين شوهوا كل حسن في التاريخ ووضعوا أيديهم على الأخطاء الفردية فقط، وبهذا صارت دولة الأمويين دموية والعباسيين كذلك والعثمانيين دكتاتورية.
قال السالم: «والذي خلق هذا الشكل من نظام الحكم هو المجتمع الاقتصادي، فباستثناء المجتمعات الهمجية التي كانت قائمة على الغزو والنهب (كالمغول والتتر) فإن جميع اقتصاديات المجتمعات المتحضرة بلا استثناء -الإسلامية وغيرها- كانت إقطاعية لأن الاقتصاد كان قائمًا على الزراعة والرعي، وهذه أنظمة اقتصادية لا تقوم بغير الإقطاع. ومن رحم الثقافة الإقطاعية تولدت فكرة الحاكم المطلق الذي كان يمنح ويحرم ويعفو ويظلم دون محاسبة أو مساءلة».
هذا غلط فالإسلام ليس إقطاعيا بل يقوم على فكرة التملك والحرية والتصرف الحر ولا يدفع الرجل إلا الزكاة والدولة الإسلامية لا تملك الأراضي بل الشعوب يملكون بيوتهم وكل له بيته وأرضه وليس للدولة حق فيه إلا الزكاة وهي ليست للدولة بل لفقراء أهله ومن يسكن حوله، وكان الخلفاء يتدخلون لتوزيع المال المكتسب وبطريق ونظام محدد في الشرع، والخلفاء كعمر أعدل من عرفته البشرية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
قال السالم: «فإذا انتقلنا إلى تجربة الخلافة فسنجد أنها لم تكن بأفضل من تجارب غيرها من حيث العدالة أو من حيث الفتن والقلاقل. فباستثناء عهد الخلافة الراشد الذي لم يمتد لأكثر من أربعين عاماً -وفي بعض الأحاديث نُقل أنها ستكون ثلاثين عامًا فقط- فقد كان نظام الخلافة في مجمله نظامًا دمويًّا ظالمًا، ووجود بعض الاستثناءات التي لا تمتد إلا لسنوات معدودة، فهذا لا يُعتبر في الحكم على الخلافة، فالاستثناء يظل استثناء لا يتعلق به مصير الأمم».
فأقول: لم تفرق بين الواقع الذي كان في التاريخ بمعنى أنك تجهل التاريخ فلم تعلم أن الخلافة مكثت في المدينة إحدى عشرة سنة وأبو بكر سنتين وعمر أحد عشر عاماً وزيادة وعثمان اثني عشرعاما وعلي ست سنين وستة أشهر والحسن ستة أشهر ومعاوية عشرين سنة وابن الزبير تسع سنين فهذه أكثر من سبعين عاماً -وسيأتي الكلام عن الأسرة الثانية المروانية -ليس فيها دموية ولا ظلم باستثناء فترة يزيد التي وقعت فيها الحرة ومقتل الحسين، وكان فترة حكم يزيد قليلة فتولى في رجب سنة ستين وفي نفس السنة خرج الحسن ثم في ثلاث وستين وقعت الحرة، ثم في عام أربعة وستين هلك يزيد بن معاوية وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فولايته من 61في رجب حتى 64 في ربيع الأول فثلاث سنين شوهت كل تاريخ الخلافة وسبعين سنة وما بعد يزيد تولى معاوية الثاني بويع له في ربيع الأول سنة أربع وستين ومات سنة أربع وستين وخلافته قيل أربعون يوماً وقيل ثلاثون وقيل غير ذلك فلم يلبث إلا أياماً ولم يستخلف، ثم بايع كل العالم لابن الزبير باستثناء بعض الشام فبايع الضحاك بن قيس، وهم مروان بالبيعة ولكن الطابور الخامس منعوه فخرج مروان على ابن الزبير وبعد أن استقام الأمر للمروانيين لم تكن دموية ولا ظلما وكان الناس في استقرار. فليس إلا ثلاث سنين حدثت فيها الدموية في خلافة يزيد فمن أول الحسن ومروراً بمعاوية وعبد الله بن الزبير هؤلاء أكثر من سبعين سنة، وكانت فترات خير ورحمة بالناس إلا استثناءات قليلة كمقتل الحسين والحرة وباقي أيام الخلفاء كانت على خير ورحمة للناس.
قال السالم: «وبالجملة فقد أثبتت التجربة أن الخلافة الإسلامية من بين الإمبراطوريات تعد الأقصر من بين نظم الحكم استقرارًا، والأسرع انهيارًا. فعمر الخلافة الراشدة كان قصيرًا جدًّا، وانتهى بمقتل علي -رضي الله عنه- وتنازع أفضل الخلق من صحابة رسول الله، ومقتل الحسين، واستباحة أموال وأعراض أحفاد الصحابة في مدينة الرسول - عليه الصلاة والسلام-».
أقول: الخلافات التي نشأت بعد علي رضي الله عنه كانت أمورا مستثناة قليلة الأثر وقولك استباحة أموال وأعراض أحفاد الصحابة فهذه شبهات، ولا يوجد دليل واحد صحيح على هذا.
قال السالم: «وكانت الخلافة الأموية مليئة بالقلائل والفتن والدماء، وانتهت الفتوحات الإسلامية مع عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقد سقطت الخلافة ولم تدم أكثر من ثمانين عامًا».
أقول: بينا قبل ذلك أن زمن الفتن قليلة ونفيك الفتوحات بعد عمر غير صحيح فعهد باقي بني أمية كله فتوحات ثم دولة بني العباس كلها فتوحات، والعثمانيون وصلوا لفيينا وفتحوا القسطنطينية وكادوا يقضون على أوروبا إلا أن اليهود ومعاونوهم من الطابور الخامس حالوا دون ذلك.
وقال السالم: «وقامت الخلافة العباسية على دماء ملايين المسلمين، فقد ذكر الذهبي أن أبا مسلم الخرساني وحده قتل ألفي ألف- مليونان- في خراسان وما حولها ليوطد حكم بني العباس. وبعد أنهر من الدماء وتلال من الجماجم المسلمة استقرت الأمور لسنوات معدودة فقط ثم بدأت الفتن الدموية العظيمة التي كان القتل فيها بالملايين. فقد قتل بابك الخرمي مليونا ونصف المليون والدولة العباسية ما تزال شابة في أوج مجدها في عهد المأمون. وحصل فيها من الفتن الدينية وامتحان المسلمين أمر عظيم، من أشهرها فتنة خلق القرآن. وما فعله القرامطة -والخلافة العباسية ما تزال في عصرها الذهبي- من فظائع دموية وقتل الحجاج وسرقة الحجر الأسود لاثنين وعشرين عامًا، وهدم الكعبة ومنع الحج، أحداث مشهورة لا داعي لسردها. وبعد ذهاب العصر الذهبي للعباسيين -على دمويته وفتنه وقصر عمره- دخلت الأمة في عصر الممالك والجهل والظلام التي كانت هي وبمشاركة الخلافة العثمانية سبب انحطاط المسلمين».
أقول: لم يظهر القتل في الدولة إلا في أولها في عهد السفاح فقط نتيجة الخلاف السياسي بين دولتين كما حدث حين انتقل الأمر من الرومانيين إلى الأوربيين ومن اليونانيين للرومان وهكذا مثلها في الأمم كثير ومجازر نابليون في فرنسا وحروب فرنسا وانجلترا وغيرها مما تعمد إخفاءه. وأبو مسلم الخراساني شيعي هالك قام في أول الأمرلخدمة بني العباس لأنهم من آل البيت ثم انقلبوا عليه بعد ذلك لأطماعه ثم كيف تحسب بابك الخرمي الزنديق الداعي لديانة فارس ولديانة الرفض والزندقة خرج ضد الدولة العباسية فهل يحسب هذا على الدولة العباسية ألست تعلم أنك تدخل الحقائق بعضها في بعض، فهل من عاقل يحسب موقف بابك على الدولة العباسية كما أنك تتقول على الذهبي فقد قال الذهبي اجتمع جماعة من الأدباء فأحصوا من قتله بابك... فأنت تتبع كل ما يعن لك وكل من يخدم فكرتك تعتمده... وبابك الخرمي لم يخرج في عهد المأمون وقتل الحجاج كان من الرافضة الباطنية القرامطة ليس من الخلافة، ثم مكن الله لهم بعد ذلك. وسرقة الحجر الأسود سرقة الرافضة القرامطة وكانت الدولة الفاطمية موجودة فلم تفعل شيئا بل تواطأت مع القرمطي قاتل الحجيج. فالخلافة ضعفت بسبب أعدائها الداخليين ولم تكن الخلافة في أوج قوتها هذا غير صحيح بل كانت ضعيفة جدا فقامت الدولة الفاطمية في مصر والشام والقرامطة سراق الحجر الأسود في هجر وما حولها فكانت الدولة ضعيفة جدا وليس كما ذكرت.
قال السالم: «وأما الخلافة العثمانية فقد فتحت القسنطينية، وهدمت الأمة. فنشرت البدع والجهل والخرافات ومنعت العلم وحاولت فرض اللغة التركية، وضرب خلفاؤها -مع أمراء الأندلس- أكبر أمثلة لفساد الحكام والعبث والمجون وتسخير الشعوب لبناء قصورهم وترفيههم وعوائلهم، بدلًا من تسخيرهم للعلم العام المفيد للأمة والخلافة هي من أضاعت بلاد الشام وفلسطين وما أرجعها إلا من استقل عنها، الأيوبيون. فما كانت الخلافة حصنا للثغور إلا نادرا، بل كانت الممالك والإمارات الخارجة عنها هي من تقوم بذلك ذودا عن ممالكها وديارها وأموالها، وقد كانت الخلافة تشاغل هذه الممالك بالمكائد والتحريض عليها ومناصرة أعدائها».
أقول: قولك إن من خرج على عثمان صحابة فهذا غير صحيح بل خوارج سبئية بإجماع المؤرخين والرواة ولم يثبت أن صحابياً أو ولداً لصحابي شارك في الخروج على عثمان ولا صحابي واحد خرج أو شارك في مقتل عثمان، بل من دافع عنه هم الصحابة وأولادهم والحسن رضي الناس كلهم به وبايعوه، أكثر من أربعين ألفا كان جيشه ولكنه تنازل وحمدت له الأمة وبايعت الأمة كلها معاوية واستقر الأمر، وصلاح الدين لم يخرج عن الخلافة أبدا فهل لك أن تأتي بالدليل، بل إنه طالب من الخلافة أن تساعده قبل صلح الرملة وهو من ألغى الدولة الفاطمية وخطب باسم الدولة العباسية وهو من أعاد مصر للدولة العباسية باتفاق المؤرخين جميعاً. وأما كلامك عن الدولة العثمانية فهو أيضاً غير صحيح لأن من هدم الدولة هم أهل الاتحاد والترقي وحبسوا السلطان عبد الحميد الذي منعهم من دخول فلسطين سنين طويلة وصرح في مذكراته أنه خلع من الخلافة بسبب قضية فلسطين وضعف الخلافة كان بسبب الطابور الخامس وأولياء اليهود والغرب الذين فتحوا الهجرة لفلسطين أمام اليهود ولم تفعلها الخلافة.
د. محمد بن يحيى النجيمي - الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء