العلماء هم منارات الأرض، وورثة الأنبياء، يرشـدون الضال، وينيرون الطريق، ويحددون منعطفاته وتعرّجاته، ويبينون كيفية السير إلى الله على بصيرة ونور، يتحمّلون مسئولية الأمة، ويقفون جنباً إلى جنب مع السياسة حين تقع الفتن، وتحل الأزمات، ويكثر الهرج، ويتناقل الناس الشائعات، ولذا منزلتهم في الإسلام كبيرة، ودورهم في الاستقرار الوطني، وأمن وطمأنينة الشعوب عظيم.. عدّهم كثير من المنظّرين والكتّاب المتخصصين والفقهاء المتبحرين ضمن «أولي الأمر» الذين يجب إطلاق الطاعة لهم في غير معصية الله ثم رسوله. ولا عجب فالنصوص الشرعية، والشواهد التاريخية، والأحداث والأزمات الماضي منها والحاضر تبرهن وتدلل على ما ورد أعلاه، وما جُعل «قبض العلم» والذي فسّره رسول الله صلى الله عليه وسلم «بموت العلماء» من علامات آخر الزمان - كما في البخاري - إلاّ دليل على منزلة وأهمية هذه الفئة الغالية في المجتمعات الإسلامية المعاصر منها والقديم.
ومن نافلة القول هنا ما يتمتع به «علماء الأمة» اليوم من منزلة عظيمة لدى عامة الشعوب الإسلامية المتعلم منها والأمي، ولعل المتابع والفاحص للساحة المحلية خاصة والعربية ومن بعدها الإسلامية والعالمية يلحظ هذا الأمر بجلاء، ويدرك عمق العلاقة وتوطدها بين علماء الأمة من هذه البلاد والشعوب، ولكن أعتقد أن من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن هناك خلطاً كبيراً في حس الكثيرين منا وعدم تفريق بين (العالم الرباني المتجرد لله فيما يقول، وعلماء السلاطين في عالمنا الإسلامي الذين نعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «بالرؤساء الجهّال الذين يفتون بغير علم فيضِلون ويضلون»، ومشاريع العلماء أقصد من هم ما زالوا في مرحلة الطلب، والمتعالمين، والخطباء، والمتحدثين، والوعاظ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والقراء الذين أعطاهم الله مزماراً من مزامير آل داود، وأساتذة الجامعات المتخصصين في الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية، فالكل عند جمع منا يصنف في خانة واحدة وينعت «بالشيخ» مع الفارق الكبير بين هؤلاء جميعاً، فالعلماء الربانيون الذين يفتون في فقه النوازل، ويخوضون معركة الاجتهاد وباقتدار، ويعرفون وبامتياز متى وكيف يوقعون عن الله، هم المعنيون هنا، وهم الأس وغيورهم تبع وفرقهم عن غيرهم كبير.. ولخطورة الدور الذي يقوم به هؤلاء الثلة من قادة الأمة في ميادين الحياة المختلفة كان التحذير من زلة العالم إذ إنّ بهلاكه يهلك خلق كثير، (فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ عَائِذَ اللَّهِ الْخَوْلانِيَّ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مُعَاذًا كَانَ لا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذَّكَرِ؛ إِلا قَالَ حِينَ يَجْلِسُ: «لِلَّهِ حُكْمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ»، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتىّ يَأَخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ يَقُولُ: مَا لِلنَّاسِ لا يَتّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ ؟ وَمَا هُمْ بِمُتّبِعِيّ حَتّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ ؛ فَإِيّاكُمْ وَمَا ابْتَدَعَ، فَإِنَّ مَا ابْتَدَعَ ضَلالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضّلالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ»، قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: وَمَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ إِنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضّلالَةِ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، قَالَ: «بَلَى اجْتَنِبْ مِنْ كَلامِ الْحَكِيمِ الْمُسْتَهْتَرَاتِ الَّتِي يُقَالُ مَا هَذِهِ؟ وَلا يَثْنِيَنّكَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنّهُ لَعَلَّهُ يُرَاجَعُ وَيُلْقِي الْحَقّ إِذَا سَمِعَهُ فَإِنّهُ عَلَى الْحَقِّ نُورًا).
لقد كان مواقف الشيخ الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي من حزب الله «زيغة» وفي تراجعه عن موقفه المؤيد وإعلان ذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة درس تربوي ومنهج ريادي حتى لا تبقى للعالم آثار زلّته بعد موته، وعلى الحق نور، والحق أحق أن يتبع .. وأنني في هذا المقام أتمنى وانتظر مثل غيري إعلان أمثال هذا العالم مراجعاتهم المختلفة في ميادين الحياة الرحبة حتى لا تكون لهم زيغات وتبقى هذه الانحرافات في سجل أحدهم سنّة سيئة - لا سمح الله - يكون عليه إثمها وإثم من أخذ بها إلى يوم القيامة، ليس هذا فحسب بل الواجب على كل منا نحن أنصاف العلماء والمثقفين والكتّاب فضلاً عن العامة والبسطاء أن نُعمل عقولنا، ونبحث عن الحق في الفكرة لا فيما عند الرجل «فالرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال».
شكراً من القلب وتحية إجلال وإكبار لفضيلة الشيخ القرضاوي على هذا الدرس الجميل في أدبيات الرجوع إلى الحق، والبحث عن الصواب، والصدع والجهر بالقناعة متى ترسخت في الفؤاد وإن كان الثمن في الدنيا ووسط الأتباع غالياً فالجنة أغلى، شكراً لكل من استطاع أن ينتصر على نفسه من أجل أن يكون جندياً من جنود نشر الخير والحق والجمال في عالمنا المليء بالشرور والمنغصات والأزمات، ودمتم بخير وإلى لقاء والسلام.