في عام 1979م عقد رئيس مصر، أنور السادات، اتِّفاقية كامب ديفيد للسلام مع الكيان الصهيوني. وكانت تلك الاتِّفاقية شديدة الإيلام على نفسي، وأعتقد أنها كانت كذلك على نفوس المخلصين لأُمَّتهم العربية. ذلك أنها أخرجت مصر -بما لها من ثِقَلٍ
سياسي ومعنوي- من ميدان المواجهة مع ذلك الكيان العنصري المغتصب لفلسطين. ومن غرائب المصادفات أن ذلك العام شهد، أيضاً، الإطاحة بحكم شاه إيران، الذي كان له أقوى الروابط؛ سياسيًّا واقتصاديًّا، مع الكيان الصهيوني. ولم يكن غريباً أن الشاه المخلوع لم يجد من يستقبله لاجئاً لديه حتى أمريكا التي كانت لها علاقة وطيدة به. وكان الوحيد الذي رَحَّب به هو السادات مُوقِّع اتِّفاقية كامب ديفيد.
كنت ممن تَألَّم وشعر بما يُتوقَّع أن ينتج عن اتِّفاقية الكامب ديفيد من عواقب وخيمة على أُمَّتنا؛ وبخاصة على قضية فلسطين. وكان من تلك النتائج في اعتقادي تَشجُّع الصهاينة على ارتكاب جريمة اجتياح لبنان عام 1982م؛ وهو الاجتياح الذي كان من نتائجه مذبحة صبرا وشاتيلا، واضطرار زعماء منظمة التحرير الفلسطينية والقوات التابعة لهم إلى مغادرة لبنان. وربما كان من نتائج تلك الاتِّفاقية المشؤومة، أيضاً، تَبنِّي زعماء العرب في مؤتمرهم بفاس، ذلك العام، مبادرة سلام مع الكيان الصهيوني. بل ربما أُلِحق بذلك تَشجُّع زعامة سوريا على ارتكاب مذبحة حماة التي راح ضحيتها أكثر من أربعين ألفاً؛ إضافة إلى تدمير ما دُمِّر من تلك المدينة. ذلك أن غياب زعامات عربية لها هيبتها، ثم خروج مصر من ميدان قضايا العرب، أتاح للزعامات السيئة أن تبيض وتصفر متى تشاء.
وفي خِضمِّ تلك الأوضاع سيطر على مشاعري ما سيطر من أَلمٍ وأَسى. فكتبت قصيدة عنوانها: “لا تسلني” مُستهلُّها:
هكذا دارت دواليب الفَلَكْ
واختفى النور باستار الحلَكْ
والمُنى الخضر التي رَفَّت على
شفة الأمس بها الدهر فَتَكْ
ومما ورد فيها:
أيها الساري وأشواك الرَّدَى
مَلأتْ كُلُّ طريق قد سلَكْ
لا تسلني عن خفايا ألَمي
إنما آلمني ما آلَمكْ
الرُّوى السوداء قَسْمٌ بيننا
والأَسى المُرُّ غذاء مُشترَكْ
والأحاسيس التي تغتالني
جُرِّدت أسيافها كي تقتلَكْ
لا تسلني.. كُلُّ ما في أُفُقي
يزرع الدَّرب ملايين شَرَكْ
كُلُّ ما حولي طِلاء زائفٌ
لِدِماء الطُّهْر والصِّدق سَفَكْ
لبس العاصي جلابيب التُّقَى
وبدا الشيطان في زيِّ مَلَكْ
والمُراؤن علا سلطانهم
كَدُّروا حوضي.. أغاضوا مَنهلَكْ
كم يَودُّون لو اغتالوا النَّدَى
إذ رأوا عطر النَّدَى قد أثملَكْ
أيها الساري وكم في الدَّرب من
مُفترٍ يرمي لمن سار الشَّبَكْ
حقده المشبوب في مهجته
لو خبت جذوته فيها هَلَكْ
وبليغٍ يُدَّعي الزُّهد وإن
غفلت عيناك عنه أكَلَكْ
وكان ختامها:
لا تَسلني أَيها الساري ففي
عارضي تبدو جراح المُعتَرَكْ
لا تَسلني أين أخطو؟ آن لي
في متاهات السُّرَى أن أسألَكْ
إن تكن تبصر وَمْضاً خافقاً
في جبين الأُفْق فاحملني مَعَكْ
وتوالى تَكسُّر النِّصال. وكان من تلك النِّصال الفتَّاكة ارتكاب صدام حسين جريمته الهوجاء باحتلال الكويت، التي كان من نتائجها تحطيم قوة العراق التي كانت الخطر الإستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني. ومن نتائجها في نظري انبعاث الروح القبلية على حساب الشعور الوطني العام، وتَرسُّخ المشاعر الإقليمية على حساب المشاعر القومية الهادفة إلى وحدة أُمَّتنا العربية. وكان من نتائج هذا التحوُّل المؤلم حقاً أن بدا عدم اكتراث لدى كثيرين بما فُرِض على العراق من حصار ظالم ذهب ضحيته مئات الآلاف؛ وبخاصة الأطفال. ثم اختُتِم هذا الحصار بغزو ذلك الوطن العربي المسلم واحتلاله من قِبَل أمريكا وبريطانيا؛ وذلك خدمة للكيان الصهيوني.
ولا تسل عن أولئك الخونة لوطنهم؛ أمثال الجلبي، ممن كانوا يحملون الجنسية العراقية وأفئدتهم كلها حقد على العراق وأهله الحقيقيين. ولا تسل، أيضاً، عما ارتكبه المحتلون من جرائم ضد الشعب العراقي وتراثه وبنيته الأساسية وثروته. على أن كبرى تلك الجرائم ما وضع من دستور صاغ مواده يهودي عراقي الأصل يعيش في أمريكا، وأصدره الأمريكي بريمر؛ لحمته وسداه تقسيم العراق على أساس طائفي بغيض، ثم تمهيد الطريق للنظام في إيران كي يُوطِّد نفوذه في ذلك الوطن العربي المسلم.
على أن الهَبَّات الشعبية في عدد من الأقطار العربية ضد أنظمة مُتحكِّمة فاسدة بعثت بريقاً من أمل لما تزل أمنيات تَحقُّق أهدافه منتظرة. وكانت أخرى تلك الهَبَّات هي ما حدث في سوريا. لكن ما جابهته وما زالت تجابهه من تحدٍّ إيراني له امتداده في العراق ولبنان، ومساند بروسيا الاتحادية؛ إضافة إلى الموقف الغربي المتخاذل، أو المتواطئ، بزعامة أمريكا التي يهمُّها ما يَهمُّ الكيان الصهيوني الذي لا يرى مصلحة له في زوال النظام في سوريا، يجعل انتصار تلك الهَبَّة أرفع الأثمان التي يجب دفعها. ومن الممكن أن يقال: إن ما وصل إليه الوضع في سوريا من تقتيل وتدمير فظيعين قد يكون مقنعاً للصهاينة أنه كافٍ مؤقَّتاً على الأقل. وعند ذاك ربما تَتَّخذ أمريكا موقفاً ليس إلى هذه الدرجة من التخاذل أو التواطؤ.